"سيلما"، كما كان يطلق أهل طرابلس على السينما، عنوان فيلم وثائقي(*) للمخرج هادي زكّاك، يبحث فيه عن سير الصالات السينمائية في مدينة طرابلس منذ الخمسينيات، وهي التي أفلت مع بداية الحرب الأهلية في السبعينيات. هي سيرة صالات وافلام تماهت مع سيرة جمهورها وتحولاته الاجتماعية، وموضوع حوار أجرته "المدن" مع المخرج:- "سيلما" ينضم إلى سلسلة أفلامك الباحثة في التاريخ الاجتماعي لبلد يُروى تاريخه كوجهة نظر. بعد أفلام عديدة مثل "مرسيدس" و"درس في التاريخ"، ماذا أردت من فيلم "سيلما"؟* أردت من الفيلم البحث في التاريخ الشفهي لمدينة طرابلس من خلال السينما، حيث ظهرت أيضاً سيرة مختلف الطبقات الاجتماعية والدينية، بالتوازي مع سيرة صالاتها السينمائية المنتشرة في الساحات الرئيسة للمدينة وفي أحيائها الداخلية، ويندرج ضمن سلسلة أفلامي التي تبحث في تاريخ لبنان، سواء المدوّن الرسمي، أو الشفهي المُوثّق من وجهات نظر متعدّدة. في هذا الفيلم أيضاً كان البحث شخصياً، كوني أنجزته وأنا في مرحلة منتصف العمر، وما يرافقها من أسئلة مختلفة، منها البحث عن ترابط سيرتي الشخصية وحبي للسينما منذ عمر الصبا كمُشاهد إلى بداية عملي في الأفلام كمخرج.
- السينما في خمسينيات طرابلس، زمن جميل وطريف، نسمعه بالصوت المرافق للفيلم كأنها سير حكواتية. لماذا استعنت بالسرد الحكواتي؟* لا يخلو الفيلم من طرائف ومفارقات، المسرحي فائق حميصي يتذكّر في طفولته أن ثمن الدخول إلى السينما كان مقابل عدد من بيض الدجاج أو سندويشات منزلية، وكان في ذهن الأطفال أن المأكولات تذهب إلى أبطال الأفلام أو الضيوف الذين أتوا إلى طرابلس لتمثيل أفلامهم. كانت السينما في طرابلس امتداداً لفكرة الحكواتي وفكرة تمثيلات الفرق المسرحية التي تقام في الأعياد والمناسبات. من هنا كان الفيلم امتداداً لفكرة الحكواتيين، فاستعملت سردياتهم صوتياً من دون أن نشاهدهم، مما أضاف شيئاً من السحر على حكايات الجمهور. أما الصور فكانت إعلانات "هذا المساء" وصور أبطال الأفلام المطبوعة على مجسمات خشبية عملاقة.- الفيلم عبارة عن صور فوتوغرافية ثابتة ومتداخلة بين الماضي والحاضر، وهذا الخيار مغامر بعض الشيء لتقديم فيلم على مدى ساعة ونصف الساعة..* خيار الصور الفوتوغرافية حتّمه المكان الذي فرض عليّ الصورة الثابتة، كنت كمَن ينقب عن صالات سينمائية اندثرت، وفي تجوالي في المدينة لاحظتُ أيضاً ثبات صورة المدينة، صورة تاريخها غير محدّد، المتحرك الوحيد فيها هو الصوت أو الضجيج الصوتي. من هنا ذهبتُ إلى خيار الصورة الثابتة وتداخلها بين الماضي والحاضر. أما الصوت فهو شريط مواز يضج بالحياة. وعامل آخر أخذني إلى الصورة الثابتة أو الساكنة، يعود إلى أني عندما بدأتُ تصوير الفيلم، كان البلد قد بدأ انهياره الاقتصادي وكنت أبحث عن خيارات إنتاجية لا تمنعني من إكمال الفيلم، وهو خيار متقشف ورحّبت به الجهة المانحة التي ساعدتني لإكمال الفيلم.- تتداخل سيرة الشاشات مع سيرة جمهورها، مرّة تتعرّض لإطلاق النار، ومرّة تشهد مجازر الحرب الأهلية، ومرات تستخدم للاستقطاب الحزبي...* كانت الصالات مختلفة من منطقة الى أخرى ونوعية الأفلام أيضاً، سينما إحدى المناطق المخصصة لأفلام الأكشن والعصابات، لم تكن تدخلها النساء، وكانت الأفلام تُستكمل بشكل حي بعد الخروج من الصالة، حيث جمهور الشباب مسلح بالسكاكين والأسلحة الفردية. صالة أخرى يملكها رجل ينتمي إلى اليسار ويعرض الأفلام السوفياتية في مدينة الميناء ،وينظم النقاشات بعد كل نهاية فيلم. كل هذه السرديات والفروقات السياسية والدينية والاجتماعية والطبقية، كانت سيرة مدينة أو سيرة بلد يتحضر لانفجار التناقضات والدخول في الحرب الأهلية، فشهدت الصالات إطلاق نار من الجمهور على شاشاتها، أو صالة أخرى في باب التبانة شهدت مجزرة دموية. - تمتزج حكاية الصالات والأفلام مع مرويات جمهورها التي تتعدى فكرة الحنين إلى زمن مضى، لتبلغ مقاربة مجتمع متنوع تفكك وتحوّل إلى ما يشبه سيرة صالاته...* شكلت سير الصالات تحدياً بالنسبة إليّ، فعندما نقول سيرة صالات سينمائية يقفز إلى الذهن السرد النوستالجي أي الزمن الجميل والذهبي، وهي مقاربتنا نفسها لكل تاريخ ما قبل الحرب الأهلية، والتي تمحو الجوانب السلبية أو تحاول حذف المسكوت عنه من تناقضات ثقافية واجتماعية مهدت للحرب الأهلية في لبنان. في فيلم "سيلما"، أردت من سير سينما طرابلس أن تسرد الفروقات الثقافية والطبقية الاجتماعية وخصوصيات الأحياء وفروق المناطق التي كان جمهور سينماها صورة مصغرة عن المجتمع الطرابلسي. من خلال سير الصالات، تكتشف فروق المناطق والأحياء، الجمهور الميسور في صالات،، والفقير في صالات أخرى (التل، البوليفار، الميناء، التبانة...). حتى السينما الواحدة شهدت فرزاً بين جمهور الصالة وجمهور البلكون والعائلات التي تقصده. في بعض الصالات المخصصة لأفلام الاكشن والعصابات، كنا نجد جمهوراً بأسلحته وإشكالاته، أيضاً هناك الفروق الدينية لأصحاب الصالات ونوعية الأفلام الدينية التي كانتْ تقدم برمجة مختلفة بين صالة وأخرى.(*) يعرض الفيلم ضمن مهرجان بيروت للأفلام الفنية (باف)، للاطلاع على البرنامج الكامل النقر هنا.