في مجموعة العائلة في"واتسآب"، وبعدما أتممتُ طهو الغداء، جاءني احتجاجها ساخناً يحرق كماءٍ مغلي تصبّه في الجوف: لماذا لم نتعاطف حتى بالدعاء لأهل حلب؟ لماذا الدعاء كله من نصيب غزّة وجنوب لبنان؟ أم أن خيرنا نحن السوريين اعتاد أن يخرج للجوار!نعم لقد مررتُ بمنشورٍ في العالم الأزرق بالأمس، أرسلتْ عبره صاحبته قلبها إلى حلب. تفقدتُ صفحتَي الأخبار الأشهر عربياً، لم تأتِ إحداهما على ذكرها، حلب بخير إذاً. تكثفت المنشورات الفيسبوكية بين نعي وسطور غامضة، هكذا اعتدنا المشهد السوري مؤخراً، غمز ولمز، وعلى القارئ فكّ الشيفرة لعلّه يحظى بخبر جهينة.من المؤسف والمؤلم أن تحيا كسائر الأنواع الحيّة، تأكل تشرب وتنام، تبحث عن الخبر فقط حين يُؤكّد. مَن يخبرنا عن حلب اليوم؟ تكرّمت إحدى المحطات -وتلك سياسة وليست مكرمة أو مهنية إعلامية- وغطّت الحدث مع نشر ما يصلها عشوائياً من فيديوهات لا نعلم إن كانت صحيحة. أفاد قريب لي بأن الوضع مزعج حالما اطمأنيت برسالة عن أحوالهم. هناك مَن بدأ بإخلاء البيوت مجدداً. رحلة الخوف تعيد نفسها بذهولها ومجهولها المختبئ خلف الستارة، لا ندري متى ينقض كوحشٍ ضارٍ. وككل خبر سوري/إقليمي، شرخٌ صدّع القلب السوري فتشظى. هناك مَن يحتفل اليوم بالعودة التي ناضل لأجلها، قططٌ حُبست من دون طعام ولا ماء حتى تحوّلت نموراً برّية. أمهات اغترب أبناؤهن، يتعاطفن مع شهداء السكن الجامعي في الأمس، وهناك مَن تعاطف مع جنود يُساقون لمعركة لا ناقة لهم فيها، أولادهم يشبهونهم، والموقنون بالمؤامرة التي أماطت لثامها يحلّلون: لصالح مَن تلك الحركة؟ للملك أم للقلعة أم لعلّه الوزير الخائن. تتّسع رقعة الشطرنج بالأحمر والأسود، وتغوص الركب في لوائح الشهداء والمفقودين.نراقب جزأنا المبتور، نتلمسه فلا نشعر به، نأوي إلى شؤوننا الصغيرة، نغلي ارتيابتا مع القهوة، يزنرنا القلق هنا في هذا المكان القاصي عن الحياة. لا ندرك ما يُدرَك، ولا نفقه ما لا يُعقل. كيف لساعة الصفر أن تبدأ أكثر من مرّة ولأكثر من أمر! ديارنا التي تحترق، نقف قبالتها واجمي الملامح ننتظر مَن يُعلمنا صدقاً بما يحصل. تعاطفنا نعم مع فتاة إيران، مع مجازر السودان ومتضرري الأعاصير وحرائق الجزائر، وطفل مغربي سقط في الجبّ.وصمتُنا أمام مصابنا، ليس تجاهلاً ولا نقصاً في إنسانيتنا، بل جهلاً بأن مَن يُنادى عليه هو ميتٌ يخصّنا. مشينا في مواكب جنائزية لتوابيت لم نعِ أسماء مَن فيها، صمتنا جبناً وخوفاً من الشقاق. هناك مُهلّل سيطلق علينا الرصاص، وهناك محزون سيتهمنا بالعمالة. نبتلع سكين قابيل بحدّيها، نرشّ ملحاً فوق نزيفٍ ونصمت. هاتوا لنا كل قضايا الحيوان والإنسان في هذا العالم المختلّ، نساندها ونكتب عنها. أما عن حلب، فنخطّ ونمحو ونصوّب ونخطئ، تجرّ كلماتنا حروفاً معتلة النهايات إلى مهملات الذاكرة. هل مِن بطل يكشف صدره للرصاص، وخاصرته لطعن الخناجر؟ يقف في منتصف الساحة، يتذابح الصغار في لعبة الكبار، ويعلنها بصوتٍ مسموع: "نعم أنا مع الكلّ المغلوب ولستُ بخائن، مع الشرقية ومع الغربية، ما أنا سوى متطرف للخراب، أستعير صوته وأقول لقد أكثرتم يا أبناء أمي".لن أفلسف الأمر وأتغنى بحلب، طربها وشوارعها وغارها وقلعتها. لن ألوم النفس على التهميش المعرفي، لعلّها تغفر. لن أسوق الحجج لعينٍ تبصر ويدٍ لا تطاول حلّاً. أردّد فقط وراء ممدوح عدوان ماقاله على لسان ملكها وشاعرها:سيف الدولة: لم تقل لي. إذا رحلت عن حلب. أفي ذهنك مكان محدد تذهب إليه؟المتنبي: نعم. إلى حلب.سيف: من حلب إلى حلب؟ في أيّة جغرافيا هذه؟المتنبي: في جغرافيا القلب والروح. لكل إنسان حلبه يا سيدي. وأينما توجه في دنيا الله لا يستطيع أن يصل إلا إلى حلبِه.سيف: وهل يصلها فعلاً؟المتنبي: هناك من يكفيهم وَهمُ الوصول. فيموتون بارتياح. وهناك من لم يعرفوا حلبهم. وهؤلاء يصلونها ولا يعرفون.