في كل حي من أحياء مدينة صور قصة عن معالم وأبنية اندثرت، وتهتكت حجارتها وحتى حديدها. لم يسلم فيها حي واحد من التدمير الممنهج، الذي اقترفته طائرات العدو الإسرائيلي، تاركة بصمات مميتة، بين أطلال الركام، طاوياً تحته ذكريات وأحبة تعلقوا بمدينتهم. تسقي الجميع وباتت عطشىبوجع كبير، يصرّ أبناء صور والمستثمرين فيها على تخطي آثار العدوان واستعادة حياتهم الطبيعية تدريجياً. فهم أصبحوا مع مرور عقود من الزمن من اعمدة المدينة المفتوحة على حضارات وتاريخ وثقافات ومقاومات، صارت تسري في الشرايين كالدم.هنا، كورنيش صور الجنوبي "جادة الرئيس نبيه بري" وهناك دوار جنبلاط وشارع ابو ديب- قرطاج، وطلعة الاستراحة وشارع الدينية والجعفرية ومنطقة الحسبة القديمة والآثار، كلها أماكن متساوية بجروح غائرة، تبعد قليلاً عن القلب.في كل حي من الأحياء الممتدة حتى دوار البص والمدينة الصناعية، تجهد بلدية صور، لرفع الأنقاض من الشوارع وفتح مسارات أمام المواطنين كخطوة أولى. أما أصحاب الشقق والمحال والمطاعم والمقاهي فيرفعون بأنفسهم مخلفات الدمار والزجاج من أمامها، تمهيداً لإعادة الروح إليها واستقبال من اعتادوا الجلوس فيها صباحاً ومساءً.كان يشرب من ينابيع صور بـ"الرشيدية" وبركها التاريخية الرومانية بـ"رأس العين" حوالي ثلاثين بلدة وقرية. لكن باتت صور اليوم من دون مياه، منذ تدمير الطائرات الحربية الإسرائيلية مصلحة المضخات في مصلحة مياه صورالتي كانت تؤمن المياه لأكثر من ستين ألف نسمة، وها هي بلدية صور تتولى مهمة تأمين المياه، بواسطة الصهاريخ وحتى الغالونات، للسكان. لم تُحصَ الأضرار بعدعند الكورنيش الجنوبي، وأمام أحد الابنية المنهارة، رفع أحدهم العلم اللبناني، ربما لتأكيد عدم انتماء المكان لأي حزب سياسي. هذا فيما كانت جرافات البلدية، تعمل على توسيع هذا الشارع، الذي تحول منذ حوالي عقدين من الزمن، وتحديداً بعد عدوان تموز 2006، إلى درة الاماكن السياحية والترفيه على مستوى المدينة وكل لبنان.
رئيس بلدية صور، المهندس حسن دبوق، الذي يتولى رئاسة اتحاد بلدياتها، كان يتابع الأشغال لحظة بلحظة. نسأل دبوق عن حجم الدمار في المدينة وإذا ما أجروا أي إحصاء للأضرار، فيجيب: "الدمار كبير جداً، ولم يحصل في تاريخ المدينة الحديث. الدمار حل في كل الشوارع والأحياء، من الحارة القديمة إلى أحياء الرمل كافة. لقد أحصينا حتى الآن أكثر من 50 بناية، دمرت تدميراً كاملا، يبدأ ارتفاع كل منها بأربع طبقات، ويزيد العديد منها على العشر طبقات".ويلفت دبوق إلى إن تدمير كل بناية من هذه البنايات، نتج عنه أضرار بالغة بالأبنية المحيطة، التي اصبحت غير قابلة للسكن، قبل إعادة ترميمها. ويستدرك، رغم كل ذلك فإن الأهالي تدفقوا إلى صور، بعد وقف العدوان، نظراً للتكافل الاجتماعي بين ابناء المدينة، لناحية تأمين منازل بديلة مؤقتة. وقال دبوق: "نبذل قصارى جهدنا، ونحن مستنفرون على مدار الساعة، لتأمين الحد الأدنى من المتطلبات المتعلقة بإطلاق ورشة إصلاح الكهرباء والمياه وغيرهما من الخدمات الحيوية والملحة، ولن تلين عزيمتنا مهما بلغت الصعوبات والتحديات الناجمة عن هذا العدوان".النهوض من جديدشارع" أبو ديب" نسبة إلى أحد أقدم مطاعم المدينة، نال نصيباً وافراً من العدوان الإسرائيلي، حيث دمرت الطائرات عدداً من الأبنية بعد إنذارها. هنا كان ديب بدوي، رئيس جمعية تجار صور، منهمكاً مع أشقائه وعدد من العمال، بتنظيف المطعم وإزالة الركام. بدا حزيناً على ما حل بصور من دمار وخراب. وقال لـ"المدن": الجمعية، لم تحص بعد عدد المؤسسات والمحال والمطاعم والمقاهي، التي دمرت كلياً او جزئياً، او أصيبت بأضرار مختلفة، لكننا سننهض من جديد، ولدينا أمل كبير بعودة دورة الحياة وإعادة إعمار ما تهدم.على بعد عشرات الأمتار من" أبو ديب" يسرع محمود ناصر، في رفع الأنقاض، عن " قهوة ابو شريف" التي اسسها والده قبل أكثر من 35 عاماً. ويقول ناصر: صحيح إن الدمار كبير والخسائر أيضا، لكن كل شيء يعوض. ستبقى صور مدينة للحياة والعيش المشترك، الذي ارساه الإمام الصدر.من ناحيته يتابع وسام شعيب، في محل عصير وصاج شعيب، في شارع قرطاج، التحضير لإعادة تأهيل وترميم ما خلفته الغارات الإسرائيلية على مقربة من محله. ويؤكد شعيب اننا باقون في صور، ولن نتزحزح عنها، مهما كبرت وغلت التضحيات.الدمار الذي حل بالمباني والمؤسسات لم يثن أبناء صور عن العودة السريعة لإعادة إصلاح ما تهدم. وإلى حين الانتهاء من إصلاح الأضرار يتدبرون أمور السكن في بيوت بدلية أو لدى الأقارب. ويشير المهندس على شرف الدين إلى أنه تواصل مع عدد من أصحاب مؤسسات الزجاج والألمينيوم والطاقة الشمسية، بهدف إعادة ترميم وإصلاح منزله، الذي أصبح غير صالح للسكن. لكن في ظل الطلب الكثيف على هذه المواد، وإلى حين إطلاق ورشة الصيانة، يتدبر سكنه في منزل بديل للعائلة.دمرت الطائرات الحربية الإسرائيلية، أكثر من مبنى في مجمع تاج الدين- مفرق معركة. فخسر هاشم سعد شقته التي كانت تأويه مع عائلته المؤلفة من خمسة أفراد. ويقول سعد: "عدت للتو من منطقة زحلة حيث نزحت، لكن لقد أصبحنا من دون منزل".كان سعد يتعاون مع افراد عائلته، لنقل غالونات المياه من السيارة إلى سكنه الجديد. ولدى سؤاله إذا كان قد عثر على مأوى مؤقت، يلفت إلى أنه حل ضيفاً لدى اقارب زوجته، آملاً إطلاق ورشة إعادة الإعمار قريباً كي يعود إلى منزله.