في كتابه الأول والوحيد حتى الآن، لا يكتب الفنان التشكيلي المصري محمد عبله مذكراته بالمعنى التقليدي، بل يستعرض، أو ربما يستعيد، تجربته الإنسانية والفنية عبر لوحات سردية تتنقل بين الماضي والحاضر، وبين الذات والآخر.وفي ما يشبه "معرضًا استيعاديًا"، يأخذ عبله، المتحدر من أصول بدوية وريفية، القارئ إلى ذكريات صباه حين أطعمته جدته قلب الذئب - حقيقة لا مجازاً - ليصبح شجاعًا، فيتقدم بعد سنين لاحقة، رغم معارضة والده، لدراسة الفنون الجميلة بدلًا من الالتحاق بالكلية الحربية. حين قبل عميد الكلية أوراقه، كتب عليها عبارة: "يُقبل لأنه فنان"، وهي عبارة كان من الممكن أن تضيّع شخصًا آخر في ظروف مماثلة لو استسلم لغروره، لكن عبله، بروحه البوهيمية، خاض الحياة باحثاً عن الله وعن نفسه في أزقة الحارات الشعبية وبارات ومقاهي وسط القاهرة.يرى محمد عبله الفن ضرورة لا ترفاً، وفي كتابه "مصر يا عبله" الصادر عن دار الشروق، كما في أعماله التشكيلية، يقدم شهادة صادقة على التحولات التي مر بها مجتمع بأسره، وبأسلوب يمزج بين الواقعية التي لا تخاصم السحر، تأخذ نصوصه القارئ إلى قلب التفاصيل الحياتية، بفلسفة تقوم في الأساس على التأمل أكثر من التحليل، ويكشف عبله تحديات الفنان في مواجهة مجتمع كثيرًا ما يغفل قيمة الإبداع.وفي هذا الحوار، نخوض معه رحلة لاستكشاف أسرار تكوينه الإبداعي وكيف استطاع نسج بيئاته المختلفة في لوحات نابضة بالألوان والحياة، ونتحدث عن ترحاله داخل مصر وخارجها، وكيف انعكست التحولات السياسية والاجتماعية في مصر والوطن العربي على تجربته كفنان وإنسان يحمل عبء الذاكرة الجمعية لجيله، كما نبحث معه عن إجابات لأسئلة تعيد تشكيل علاقتنا بالفن، وعن رؤيته لدور الفنان كمؤرخ غير مباشر للعصر.- كتابك "مصر يا عبله" يبدو أشبه برواية سردية محكمة. هل كان هدفك منذ البداية تقديم مذكراتك بهذا الشكل الأدبي، أم أن السرد تطور بشكل طبيعي أثناء الكتابة؟
* في البداية، كنت أرغب في كتابة رواية. لكن ذلك لم يتحقق بالشكل الذي كنت أتمناه. بدأت الكتابة كسرد ليوميات، وهذا أثّر في الشكل النهائي للكتاب. كنت أتمنى أن يكون العمل رواية، لكنه تحوّل إلى شكل مختلف قليلاً بين الرواية واليوميات.- متى بدأت كتابة اليوميات؟ وهل كان ذلك قرارًا مدروسًا أم نتاج لحظة معينة؟* لا، لم أبدأ كتابة اليوميات منذ زمن مبكر. لقد ولجت حياتي من نقطة منتصف الطريق، بمعنى أنني لم أكن أسجل الأحداث بتسلسل زمني أو بشكل منظم منذ البداية.- إذن وأنت تكتب، هل شعرت أن هناك أحداثاً أو تجارب لم تجدها تستحق التوثيق؟* نعم، لم أجد، مثلا، قصة حب قوية أو تجربة عاطفية تستحق أن تُروى. لقد كنت في حالة اكتشاف للذات أكثر من التعرف على الآخرين. في تلك المرحلة، كنت مهتمًا بما يمكن أن يعرّفني بنفسي وليس بالعلاقات مع الآخرين. ومن هنا، أي شخص اقترب مني كنت أرحب به، لكن لم يكن للأمر قيمة كبرى في حياتي آنذاك.- ظهرت في الكتاب إشارات إلى علاقات شخصية، مثل قصة الطالبة التي كنت تحبها أثناء دراستك، ثم اختفت فجأة من السرد. لماذا تعاملت مع هذا الحدث بتلك الطريقة؟* لأن هذا كان الواقع. في تلك المرحلة، لم تكن الظروف تسمح لي بمساحة للحب أو الغراميات. كنا بالكاد أجد ما آكله. لم تكن لدي رفاهية العيش في قصص الحب التي تستحق أن تُحكى. وما جرى لم يكن أكثر من مجرد لحظة عابرة في سياق حياتي.- من حديثك عن الحياة اليومية وشخصيات الكتاب، نجد أن الشخصيات تظهر وتختفي فجأة. هل كان هذا الأسلوب مقصودًا أم نتاجًا لطبيعة السرد؟* لم يكن الأمر تكثيفًا متعمدًا. عندما أتناول شخصية ما، فإن ذلك يعتمد على أهمية الحدث بالنسبة إلي في تلك اللحظة. البدايات دائمًا هي الأهم بالنسبة إلي؛ هي اللحظة التي أتعرف فيها على الشخص أو الحكاية. ما يحدث لاحقًا قد يكون ذا أهمية، وقد لا يكون. لكن تلك البداية هي القصة في حد ذاتها.- تحدثت في كتابك عن التحولات الاجتماعية الكبيرة في مصر، عقب ثورة 1952 وكيف أثّرت سلباً في والدك. رغم ذلك، أرادك أن تلتحق بالكلية الحربية. كيف تفسر هذا التناقض؟* هذه كانت طبيعة المرحلة. حتى الشيوعيين الذين سُجنوا في عهد عبد الناصر كانوا يحبونه. كان هناك شعور جماعي بأن الجيش هو مصدر القوة والنفوذ في المجتمع. والدي رأى أن العقيد في الجيش كان يرأس مجلس مدينتنا، ورأى أن هذا هو الزمن الذي تفرض فيه القوات المسلحة هيمنتها. لذا أرادني أن أكون جزءًا من هذه النخبة.- هل تعتقد أن هذه الرؤية تتماشى مع تصور والدك للفن؟ وهل كان يرى أن الفنان يمكن أن يحقق تأثيرًا مشابهًا؟* بالطبع لا. لم يرَ أن الفنان لا يمكنه أن يصبح رئيس جمهورية، لكنه رأى أن الضابط كان يمثل السلطة والقيادة في زماننا. بالنسبة إليه، كانت الخيارات واضحة: إن أردت أن تكون في الصفوف الأولى، فالطريق هو الجيش.- تأثرت كثيرًا بحكايات جدتك، وذكرت أن هذه الحكايات تحمل مسحة من الواقعية السحرية. كيف انعكس ذلك في أعمالك ورؤيتك الفنية؟* الحكايات التي كنا نسمعها ونحن أطفال، خصوصاً في الريف، لم تكن تفصل بين الواقع والخيال كما نفعل الآن. الحياة في الريف كانت تمزج بينهما بشكل طبيعي. جدتي جسّدت هذه الثقافة، وكانت الحكايات جزءًا من طقس يومي قبل النوم. حكاية "الديب"، مثلاً، كانت بالنسبة إلي واقعًا ملموسًا، فجدتي كانت تؤمن بأني إن أكلت قلب الذئب فسأكون أشجع، وعندما أكلته بعدما أحضرته لي، شعرتُ بالشجاعة فعلاً. هذا المزج بين الواقع والأسطورة ظل معي، وكان له أثر كبير في رؤيتي للحياة والفن.- هل يمكن القول إن هذه الحكايات أفرزت أعمالًا فنية معينة؟* بالتأكيد، لكنها أفرزت أيضًا طريقة حياة. منحتني الجرأة والإقدام على الحياة. جعلتني أخوض تجارب لا يجرؤ الآخرون على خوضها، وهذا يظهر في أعمالي وفي رؤيتي للعالم.- تحدثت أيضًا عن الأماكن التي أثرت فيك، مثل حارة "درب الطبلاوي". هل ما زالت الأماكن تلهمك؟ وكيف تطور إحساسك بالمكان مع مرور الزمن؟* الأماكن تتغير، لكنها تبقى مصدرًا للإلهام لأنها تمثل الواقع. كان إحساسي بالمكان يتطور مع تطور الحياة. كنت أرسم في الحارة قديماً، عربات بحمير تنقل الناس إلى المقابر، والآن أجد التوك توك مكانها. الأمر لا يتعلق بوسيلة النقل، بل بالواقع والمشاعر التي يحملها.- هل ترى أن هذا التغيير يؤثر في طبيعة الإبداع؟* بالطبع لا. سواء كانت العربة بحمار أو التوك توك، كلاهما يُرسم. التغيير هو جزء من الواقع، والإبداع ينبع من هذا الواقع.- تحدثت في كتابك عن الحركة النقدية في الماضي. فكيف تراها الآن؟* الحركة النقدية ضعيفة للغاية مقارنة بعدد الفنانين وصالات العرض الموجودة اليوم. لدينا ربما اثنان أو ثلاثة نقاد فقط، وهذا لا يكفي لدعم حركة فنية كاملة.- أشرت إلى تجربة شخصية مع ناقد رفض الكتابة عنك لأسباب مادية، وآخر احتاج 20 عامًا ليعترف بك. كيف أثرت تلك التجارب في رؤيتك للنقاد؟* للأسف، بعض النقاد لم يكن يهتم سوى بالمقابل المادي، وآخرون كانوا ينتظرون رؤيتي من خلال عدساتهم الخاصة. في النهاية، مَن كتبوا عني بشكل جيد لم يكونوا نقادًا محترفين، بل هواة أحبوا أعمالي.- هل يعني ذلك أنك لم تكن بحاجة للنقد التشكيلي؟* بلى، كنت بحاجة إليه، لكنه لم يكن متاحاً لي. ما ساعدني هو حب الناس لأعمالي، فهم من صنعوا صورتي. النقاد لم يلعبوا دورًا كبيرًا في ذلك.- من خلال الكتاب، أشرت إلى شخصيات مثيرة التقيت بها، مثل الشاعر عزمي الذي كان يهدد بالانتحار لغياب التقدير عن فنه ثم تحوّل إلى موظف كبير وتنصل من ذلك كله، ورغم أنك ذكرت اسمه الكامل فإنك لم تشر إلى أسماء الآخرين، خصوصاً أنهم كانوا نقادًا. لماذا؟* لأني لم أرَ أهمية لذلك. شخصية عزمي، مثلاً، اسمها مختلق، ولم أذكر اسمه الحقيقي لأني نسيته. أما النقاد، فلم يكونوا بالنسبة إلي على قدر من الأهمية يستدعي الإشارة إليهم.- كيف انعكست الأماكن التاريخية التي عشت فيها، مثل المسافرخانة والغوري، في أسلوبك الفني؟ وأين مثيلاتها اليوم؟* تلك الأماكن كانت جزءًا من حياتنا، لكن العالم تغير. الشباب اليوم لديهم وسائل تلقي مختلفة، كالموبايل والإنترنت. بالنسبة إليّ، كنت بحاجة إلى العيش في هذه الأماكن لتشعرني بالحياة. الآن، تلك المساحات تضاءلت، ولم تعد بالأهمية نفسها. اليوم لو أخذت فناناً شاباً إلى الجنة ليرسم سيترك التأمل فيها وينظر إلى هاتفه.- كيف ترى مستقبل الفن التشكيلي في ظل تراجع الدعم النقدي وضعف مساهمة الدولة؟* صارت الأمور تُحسب وفق حسابات اقتصادية. الدولة لم تعد تدعم الثقافة والفن، كما كان الحال من قبل. هذه الفجوة تؤثر في الحركة الفنية، لكن الزمن تغير، ومصادر الإلهام أصبحت مختلفة. الإنترنت ووسائل الاتصال الجديدة تفتح آفاقًا، لكنها تغير طريقة التفاعل مع الفن.- أشرت في الكتاب إلى أحداث سياسية واجتماعية كبرى، مثل 1967 و1973 وكامب ديفيد. لماذا لم تتعمق فيها؟ أم أن التجنب كان متعمدًا؟* لأني لست مؤرخًا أو موثقًا. أتناول الأمور بقدر اهتمامي بها في لحظتها. الكتاب ليس توثيقًا للأحداث، بل دعوة للقارئ للتساؤل والبحث.- هل يعني ذلك أن السياسة لم تكن في مركز اهتمامك؟* السياسة تشكل جزءاً من الحياة، مثل الفن والرسم. كل ما كتبته عن الواقع والتغيرات الاجتماعية يحمل في طياته السياسة، لكن ليس بشكل مباشر.- ذكرت تغلغل الجماعة الإسلامية في كلية الفنون الجميلة. هل ستتناول ذلك بشكل أعمق في كتابك التالي؟* الكتاب التالي سيركز أكثر على السفر، وعلى التغيرات الجغرافية والنفسية التي مررت بها. سأستعرض فيه تفاصيل أوسع عن حياتي في الخارج وكذلك حياتي العاطفية ورؤيتي للحياة التي تغيرت مع الزمن.- عندما قابلت الفنان الشهير "بيكار" أخبرك أن "الفقر عدو الفن"، واسترسلت كثيرًا في كتابك عما واجهته من صعوبات مادية. كيف وازنت بين إبداعك والتحديات الاقتصادية التي واجهتها؟* على العكس من كلمة بيكار، لم أعمل شيئًا خارج الفن طوال حياتي، عشت من الفن، ومنه فقط. كانت الظروف صعبة، لكني لطالما اعتمدت على موهبتي وعلى مَن يؤمنون بها.- على سيرة بيكار، تواصلت مع معظم أساتذة الفن والأدب. هل ترى أن ذلك كان مجرد حظ، أم أنه يعكس الطبيعة الثقافية لعصرك؟ ولماذا لم تفصّل أكثر في الكتاب عن الشخصيات والطريقة التي جمعتك بها تلك المرحلة؟* طبعاً هناك جانب شخصي في الموضوع، فأنا شخص مقدام أستطيع اختراق الحواجز ولا أمتلك تابوهات. لم أكن أشعر بأن مقابلة شخصيات كبيرة مثل يحيى حقي أو يحيى الطاهر عبد الله، أمرًا يستدعي رهبة. بالنسبة اليّ، هؤلاء الكتّاب هم بشر عاديون، ولذلك لم أكن أشعر بأن اللقاء معهم هو أمر ضخم. لدي أصدقاء لم يروا نجيب محفوظ، رغم أنهم كانوا ليثبتوا أنهم أقرب إليه مني، لكني كنت أراهم بشرًا مثلنا، وكان من الطبيعي أن أتواصل معهم.- هل يعني هذا أن ذاك التواصل لم يكن سمة العصر بقدر ما كان رغبة منك في التعرف عليهم؟* لقد ارتبط أيضًا بالعوامل الجغرافية والثقافية السائدة في ذلك الوقت. كنا نعيش في منطقة جغرافية في وسط البلد، حيث تجمع المثقفون في أماكن مثل أتيليه القاهرة وزهرة البستان وريش. هذه الأماكن كانت تشكل مراكز ثقافية، حيث يجتمع المثقفون من مختلف التوجهات، وبالتالي كان سهلاً لقاؤهم. أيضًا، كان هناك تفاعل اجتماعي بين الكتاب والشعراء، وكان ذلك جزءًا من ثقافة المكان.- وهل تغيرت الجغرافيا الآن؟* نعم، فقدت الأماكن أهميتها في العصر الحالي. في الماضي، كان الكتّاب والمثقفون يتجمعون في أماكن محددة وسط البلد، وكانت هذه الأماكن تسهل اللقاءات الثقافية. في ذلك الوقت، كان الكتاب يأخذون نصوصهم إلى مندوبي الصحف في المقاهي، ويصادف أن يكون هؤلاء المندوبون كتّابًا كباراً مثل إبراهيم فتحي أو إدوارد الخراط. أما الآن، فإن الواقع الافتراضي سهل الأمور بشكل كبير، ومع ذلك كانت اللقاءات الحقيقية تتطلب رغبة شخصية وعدم خجل من أجل التفاعل مع الآخرين.