يَصعُب تصديق أنّها انتهت، هذه الحرب. فقد اعتدنا عليها ككابوس لا سبيل للاستيقاظ منه قطُّ. اعتدنا عليها في أجسادنا التي باتت لا ترتعش عندما نسمع دويّ انفجار، أو ترتعش عندما نسمع صوت انغلاق باب. أجسادنا التي باتت لا تستطيع النوم، أو تنام أكثر من عشر ساعات يوميّاً. التي باتت لا تأكل، أو تأكل بإفراط. أجسادنا التي أُنهِكت وتعبت وظننّا أنّها لن تعرف الراحة يوماً.
اعتدنا عليها أيضاً في أرواحنا التي نسيت حيواتها السابقة، تلك الحيوات التي صارت تنتمي إلى زمن غابر، يفصلنا عنه شهران من القنوط والتحديق في الموت والفناء. زمن غابر لم يكن جميلاً قطُّ، إذ كان مترعاً بالأزمات والمآسي، لكنّ أرواحنا، وبالرغم من نسيانها له، أصبحت تحنّ إليه كما لو أنّه الزمن الأجمل. كما لو أنّه الفردوس المفقود.
أرواحنا التي تحوّلت إلى خوفٍ محضٍ، وصارت تتوق إلى الفرار من تلك الأجساد المنهكة، لكنّها لم تجد منفذاً، ولم تعرف إلى أين الهروب، فاعتادت الخوفَ حتّى باتت لا تلحظه.
الثلاثاء 27 تشرين الثاني 2024، أُعلِن وقف إطلاق النار. استيقظنا (أو ربّما لم ننم) فقيل لنا إنّ الحرب قد انتهت. بعد ليلة قياميّة جنّ فيها جنون إسرائيل، فأرادت أن تحصد فيها أكبر عددٍ ممكن من الأرواح، كطفلٍ شرهٍ جشِعٍ، وُضِعت أمامه علبة حلويات كبيرة وقيل له إنّ أمامه بضع دقائق فقط ليأكل ما يشاء، ثمّ ستُنتَزع منه العلبة إلى الأبد، فأخذ يلتهم كلّ ما استطاع أن يمسك به، وأصوات اللذّة تتعالى من فمه الملآن.
قيل لنا إنّها انتهت فصُعقنا: هكذا إذاً يمكنها أن تنتهي لمجرّد اتّخاذ حفنة من الأشخاص قراراً بإيقافها؟! فقد كنّا قد اعتدنا عليها كغضب ربّاني منفلت من عقاله، لا شيء ممّا قد يقدم عليه البشر يستطيع لجمه. كنّا قد اعتدنا عليها كما لو أنّها حقبة من الكوارث الطبيعيّة المدمّرة ستستمرّ لسنوات وسنوات، فتبيّن أنّ نتنياهو وحفنة من وزرائه يستطيعون إيقافها لمجرّد رغبتهم في ذلك.
لقد استيقظنا إذاً من الكابوس الذي لا سبيل للاستيقاظ منه – هذا ما قيل لنا. استيقظنا منه ولم نُصدِّق. ذاك أنّنا ما أن فتحنا عيوننا حتّى وجدنا أنفسنا داخل حلم. حلم جميل، لا بل بديع، لكنّنا ندرك أنّه حلم. حلمٌ كلّ شيء فيه خفيفٌ، عديمُ الوزن. حلم هشّ، تُلطِّخه صوَر كابوس البارحة. حلم لا نعرف كيف نحيا فيه. أجسادنا الخائفة لا تعرف. أرواحنا المُنهَكة لا تعرف. فقد تحوّلنا إلى مخلوقات كابوسيّة تعيش في السواد العظيم ويعميها ضوء النهار.
هل سننسى يوماً كابوس الحرب؟ ما مِن شكّ في ذلك، سننساه. عاجلاً أم آجلاً سنصير نتذكّره مثلما نتذكّر الكوابيس التي نُبصِرها أثناء النوم: أي كمجرّد حلم مخيف لا حقيقة له، كشيء سوريالي لا يحصل إلّا في المنامات. حلم مخيف ستبهت ألوانه شيئاً فشيئاً كلّما تقادم أكثر فأكثر. لكنّه حلمٌ سيترك فينا ارتجاجات وتصدّعات نفسيّة وروحيّة لا شفاء منها ربّما. ارتجاجات وتصدّعات قد ننسى أحياناً أنّ ما تسبّب بها هو ذاك الكابوس، لكنّها، في أحيان أخرى، أحيان لربمّا تكون نادرة، ستذكّرنا بأنّ الكابوس كان حقيقيةً، وأنّه لا شيء يضمن ألّا يتكرّر مرّة أخرى.