بدون أي سياق، هاجمت وحدات تابعت لحزب العمال الكردستاني نقاطاً تابعة للجيش الوطني، شمال شرق حلب، يوم الأحد الماضي، ما أدى لمقتل ثلاثة عشرة وإصابة آخرين من عناصر حركة التحرير والبناء، أحد مكونات الجيش الوطني في وزارة الدفاع التابعة للحكومة السورية المؤقتة، الأمر الذي أعاد للأذهان هجمات سابقة شنتها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، قبل أشهر قليلة في مناطق سيطرة فصائل الجيش الوطني والنفوذ التركي شمال سوريا.
القاسم المشترك بين هذا الهجوم الذي يعتبر الأكثر دموية منذ عام 2020، وبين سلسلة الهجمات التي شنها التنظيم المصنف على لوائح الإرهاب، في شهر تموز / يوليو 2024، هو تزامنها مع عودة المسؤولين الأتراك للحديث عن عملية التطبيع المتعثرة بين أنقرة ودمشق.
بداية، لا يمكن الاعتداد برواية قسد حول هذه العمليات، سواء لناحية تبنيها أو من حيث الأسلحة المستخدمة فيها ونوعية المقاتلين المشاركين بها، والتي تؤكد كل المعطيات على أنها أسلحة هجومية متطورة زودها بها التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي تقوده الولايات المتحدة الاميركية، يستخدمها مقاتلون محترفون ومتدربون بشكل لا ينطبق، بل ولا يشبه ما يمتلكه مقاتلو قسد المجندين أغلبهم قسرياً، بل من الواضح أنهم مقاتلون من حزب العمال الكردستاني (pkk) التركي المخضرمين والخاضعين لتدريبات تقنية وعسكرية عالية المستوى في معسكراته مكنتهم وأهلتهم للقيام بعمليات التسلل والاغارة ونصب الكمائن بشكل احترافي، واستخدام التقنيات الحديثة والأسلحة النوعية المتطورة التي تناسب طبيعة العمليات التي تخوضها بشكل فعال، وخاصة القناصات المزودة بمناظير ليلية.
من خلال تتبع كل المعارك التي خاضتها قوات (ypg-ypj) الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) التابع لحزب العمال الكردستاني (pkk)، ابتداء من معركة مدينة عين العرب-كوباني، مع تنظيم داعش في صيف عام 2014، وما تلاها من معارك ضد التنظيم في الرقة ومنبج ودير الزور، لم تكن هذه القوات تستطيع تحقيق أي تقدم أو إحراز أي نصر دون غطاء جوي كثيف وإسناد مدفعي من قوات التحالف، وكان هذا جلياً وواضحاً في هزيمتها أمام فصائل الجيش الوطني في معركتي غصن الزيتون ونبع السلام حين غاب الغطاء الأميركي.
لذلك يلجأ قادة الحزب، المصنف على لوائح الإرهاب، إلى هذا النوع من الهجمات التي تؤكد فشله في الإرتقاء إلى مستوى الجيوش، على الرغم من السلطة التي بات يدير من خلالها مساحات شاسعة من سوريا، وهي (الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا)، والتي حقق من خلالها مكاسب كبيرة، من بينها انتاج أذرع بات أحدها الحليف الأول للغرب في الحرب ضد "الإرهاب".
إلا أن التقنيات والمعدات والتدريبات والأسلحة الحديثة التي زودت واشنطن بها ميليشيا قسد، مثل بنادق M16- M4) ) أميركية الصنع، والقناصات المتطورة ذات المدى البعيد(Barret- M82 ) ، وأسلحة القنص الحرارية الليلية، منحت قوات المشاة في قسد تفوقًا نسبيًا في ساحات القتال، خاصة بمواجهة فصائل الجيش الوطني التي تعتمد غالبًا على أسلحة بدائية وتدريب متواضع ودعم شبه معدوم عسكرياً ولوجستياً ومعنوياً.
سياسياً، فإن العمليات العسكرية التي يقوم بها مقاتلو حزب العمال ضد فصائل الجيش الوطني والقصف الذي ينفذونه ضد المدنيين في مناطق النفوذ التركي، شمال وشمال شرق سوريا، وبعض الأحيان استهداف عسكريين وقواعد تركية، لا تخرج عن هدفين ظاهرين:
الأول، خشية قيادة قسد من أي مشروع لتغيير الأوضاع القائمة في سوريا، وأكثر ما يقلقها هو نجاح المسعى الروسي بتقريب وجهات النظر بين أنقرة ودمشق، وبالتالي التطبيع التركي مع نظام الأسد الذي قد يؤدي -من وجهة نظر قسد- إلى تقارب المعارضة مع النظام وتشكيل تحالف ضدها.
الثاني، خشيتها من عملية عسكرية تركية مشتركة مع فصائل الجيش الوطني، تستهدف مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، خصوصاً مع مجيء الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، الذي منح من قبل الضوء الأخضر لعملية نبع السلام التي خسرت فيها قسد مدينتي تل أبيض ورأس العين، وهذا ما يجعلها تسعى دائماً من خلال هذه الاستهدافات إلى إضعاف الجيش الوطني وخلق حالة فوضى داخل صفوفه.
بالمقابل لا يمكن بالتأكيد إغفال مسؤولية قيادة الجيش الوطني وفصائله عن الخسائر التي تسببت بها هذه الهجمات، إلا أنه لا يجب التعامل معها على أنها كوارث أو مؤشرات على تفوق المهاجمين، بل هي من نوعية العمليات المفاجئة التي يمتلك فيها الطرف المهاجم أفضلية إلحاق الضرر بدفاعات عدوه دون تغيير موازيين القوى، لكن عندما تتكرر بنفس الطريقة وعلى فترات متقاربة يصبح من الضروري السؤال عن جدية هذه الدفاعات ومدى اهتمام القادة بها، سواء لجهة العناصر البشرية، أو لجهة الاسلحة والتقنيات والمعدات الموظفة فيها، وكذلك التدريب والاستخبارات.
وعند الحديث عن نقطة الاستخبارات، فيجب التشديد على أن مثل هذه الهجمات التي شنت بلباس قسد، بغض النظر عن منفذها الحقيقي، وكذلك أهدافه، لم تكن لتحدث لولا خروقات واضحة وفرت معلومات كاملة للمخططين، وتم بناء عليها تحديد النقاط التي استهدفت.
الأمر الآخر هو ضرورة العودة للتنبيه إلى خطورة الترهل الذي بات من سمات مؤسسة الجيش الوطني، هذه المؤسسة التي لم تنجح في تنظيم الثوار لكنها كبحت جماحهم، بمعنى أخذت منهم عنصر قوتهم الرئيسي دون أن تمنحهم شيئاً من ميزات التنظيم والمؤسساتية.
هذا الجانب شديد الأهمية لفهم ما يحصل داخل الجيش الوطني، لعل هذه الهجمات التي شنتها قسد تدفع القائمين عليه لوقف تجاهل ما يحصل داخله، والتخلي عن التواكل المفجع الذي بات سمة أغلب قادته، سواء التواكل على الظهير التركي استخباراتياً واسناداً، أو على العنصر العادي ميدانياً، والذي تراجع من الناحية النوعية خلال السنوات الأخيرة، سواء على صعيد العقيدة الثورية والدافع القتالي، ما يجعلهم يقومون بأداء وظيفي بسبب الحاجة للراتب بكل أسف، فهل سيستفيد قادة الفصائل من هذا الدرس الأليم أم أنهم سيفوتونه أيضاً؟!