في فيلم "2012"، الذي أخرجه رولان إميريش (2009)، يمر العالم بمحنة ما بعدها محنة. إذ يتسبّب قصف النيوترونات، الناتج من التوهج الشمسي، بتسخين قلب الأرض بمعدل غير مألوف سابقًا، مما يؤدي إلى تحولات في قشرتها، وذلك قبل شهر ديسمبر من العام 2012، كما كان متوقعًا. يلي ذلك سيناريو نهاية العالم الذي يغرق البشرية في الفوضى. يتتبع الفيلم مجموعة من الشخصيات الهاربة بأعجوبة من مجموعة كوارث لا حصر لها، كان أحدثتها الواقعة المذكورة. وفي الوقت نفسه، يحاول العلماء وقادة العالم إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح قبل وقوع الكارثة.
المشهد الأخير في الفيلم يصوّر مجموعة كبيرة من الناجين المختارين، ممن سلموا بفضل صعودهم إلى سفينة عملاقة بُنيت خصيصاً لهذا الهدف. يخرج الناجون إلى سطح السفينة، بعد انتهاء الطوفان، ليجدوا أن العالم قد تغيّر بالكامل، بحيث اختفت القارات المعروفة، ولم يبقَ منها سوى واحدة: أفريقيا، التي ارتفعت عن مستواها الأصلي مسافة كيلومترين.
ما حدث خلال الشهرين الماضيين في بلدنا ما هو سوى صورة شديدة الصغر عن المحنة القصوى التي يصوّرها الفيلم. بلد غرق في النار بدلاً من أن يغرق في المياه. الفاعل كائن بشري من لحم ودم، مجرّد من الإنسانية، لا الطبيعة الجبّارة، التي لم نرَ حتى اللحظة جبروتها الأقصى الذي لا يساويه جبروت. سفينة الفيلم، الأشبه بسفينة نوح في الأسطورة الدينية، حمَت الناس من سطوة المياه، فيما لم يحمِ شيء نصف سكان البلد، كما نقدّر عددهم، من جحيم القنابل. السفينة في الشريط السينمائي، الخارجة من كتب الفانتازيا، وتتسع لمئات آلاف البشر، صُنعت مسبقاً إثر تنبوء العلماء بالكارثة التي ستحصل عاجلاً أم آجلاً، وجهزت بكل ما يلزم من أجل بقاء ركابها على قيد الحياة.
لكن العدو، الذي لم يرأف بمنازلنا، كنا نعرفه جيّداً، ونعرف بطشه الذي ازداد هذه المرّة إلى حدود تخرج عن حدود المعقول، لكننا لم نفعل شيئاً كان من الممكن أن يحمينا من ذلك البطش. العمارات الحديثة التي تُبنى هذه الأيام، وبصرف النظر عن طبيعتها، لم يخطر في بال بُناتها أن يخططوا لإقامة ملجأ. تُستغل الطبقات السفلية الضاربة في عمق الأرض من أجل مواقف للآليات، بهدف إغواء الزبائن المحتملين. "المبنى مجهّز بموقف سيارتين لكل شقّة"، عبارة مغوية من شأنها أن توقع الزبون في الفخ، وتدفعه لشراء الشقة. الأبنية القديمة في بلدنا، وبحسب ما نذكر، كانت مجهّزة بملاجىء. أذكر، أيضاً، ما قبل الحرب الأهلية، وكنت مراهقاً حينذاك، حين أقام شباب المبنى الذي سكنه أقاربي في سن الفيل حفلة راقصة بمناسبة رأس السنة في الملجأ. خجلت حينذاك أن أدعو فتاة للرقص، مخافة أن توقعني مشاعري في موقف محرج، لكن تلك قصة أخرى. سمعنا روايات كثيرة عن الحرب الأهلية، سيئة الذكر، ذكر فيها الرواة أنهم قضوا أيامهم في الملاجىء. هذا الأمر لم نسمع شيئاً عنه في الحرب الأخيرة، ولا حتى حالة واحدة.
بنى العدو ملاجىء في كل مدينة أو مستعمرة من مستعمراته. كان يعلم أنه سيكون في حاجة إليها. هذا، في حين كان شعب هذا البلد، خلال الشهرين الفائتين، أشبه بطريدة في صحراء لا حفرة فيها للإختباء. هذه المباني التي نسكنها قد تحمينا من طلقات الرصاص في حرب من منتصف القرن التاسع عشر، لكنها كانت تهوي كقصور من الرمال، أو من الورق، في الأيام الأخيرة. "الطائراتُ تطيرُ، والأشجارُ تهوي، والمباني تخبز السُكَّانَ"... "نحتمي يستارةِ الشباك، تهتز البناية . تقفزُ الأبوابُ"، كما قال محمود درويش.
على أن الحديث عن الملاجىء، الذي خطر في بالنا في هذه اللحظات، بعد رؤية فداحة الخسائر البشرية، قد يبدو نافلاً. خاطرة من الخواطر الكثيرة التي تمليها الفاجعة. الملاجىء قد تحمي البشر العاديين من قنابل عادية. صواريخ العدو الحديثة تمتلك كمّاّ من الخبث يجعلها قادرة على اختراق جبل، حيت يتطلّب الأمر، إزاء هدف غير عادي.
قالت لي إحدى الصديقات، التي تسكن مع أهلها في شقة تقع في الطبقة الثالثة والأخيرة من مبنى قديم شبه متهالك، إن ارتجاجاً بسيطاً قد يودي بالمبنى. إنفرجت أساريرها اليوم، بعد وقف إطلاق النار، وبقاء البيت على حاله. لقد قُدر لبعض بيوتنا في مدينة بعلبك أن تبقى بمنأى عن الصواريخ. لكن هذه "النعمة" لم تتوافر في بيوت أخرى، صارت كومة من الحجارة تختلط مع قضبان حديدية وبقايا من الأثاث. كان بعض تلك الحجارة مكوّماً فوق سيّارة مرّت صاحبتها قرب المكان مصادفة. قيل لنا أن تلك السيدة سلمت من الحادث ولم تُصب إلاّ بجروح طفيفة. معجزة من المعجزات التي قلّ حدوثها في الأيام الماضية.