قد تُصرف دعوة رئيس مجلس النواب نبيه برّي للنازحين بالعودة إلى قراهم "حتى لو فوق الركام" في سوق الشعر الوجداني، لكنها قطعاً لا تُصرف على أرض الواقع. فلا أهالي القرى المدمّرة بالكامل قادرون على دخولها والاحتماء بركامها من البرد ولا ركام منازلهم قادر على تأمين الدفء لهم تلبية لدعوة وجدانية من الرئيس برّي. فالآلاف من العائلات لم تتمكّن بالأمس من العودة إلى ديارها، منازل سوّيت بالأرض وأرزاق محروقة، لا قدرة على إعادة بنائها، لا وعود رسمية بالإعمار، لا تعويضات مرتقبة ولا قدرة مالية على تأمين البدائل.. وحدها الآمال يتسلّح بها هؤلاء بانتظار العودة إلى ديارهم.العودة بين 2006 و2024
بالعودة إلى العام 2006 وقبل انتهاء الحرب، طمأن "حزب الله" أبناء بيئته وعموم الناس المتضرّرة أملاكهم من الحرب مع إسرائيل بتعويضهم ما خسروه وإعادة بناء ما تهدّم. وأكثر من ذلك عمل الحزب حينها على سداد تكلفة إيجارات المنازل لأهالي الجنوب والضاحية الجنوبية الذين فقدوا منازلهم واستأجروا أخرى، لحين الإنتهاء من إعادة إعمارها. وفور وقف إطلاق النار في آب عام 2006 انطلقت الجرافات لرفع الأنقاض وانطلقت معها عملية توزيع التعويضات ومنها انطلق مشروع "وعد" لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية.
لا شك أن حجم الدمار في الحرب المنتهية بالأمس يفوق كثيراً حجم الدمار الذي خلّفته حرب 2006، ولكن في تلك الحرب لم يضطر أي من المتضرّرين للعودة تحت القصف إلى بيته كما حصل في هذه الحرب، مع الكثير من العائلات التي عجزت عن سداد إيجارات سكنية مرتفعة في المناطق الآمنة، وأخرى عجزت عن تحمّل معيشة غير لائقة في مدارس الإيواء. كما لم يضطر حينها فاقدو المنازل للعودة فوق ركام منازلهم متسلّحين بدعوة "وجدانية" كما هو الحال اليوم.وعود غير رسمية وتقديمات خجولة
لم يتلق متضرّرو الحرب الأخيرة أي تطمينات أو وعود رسمية بإعادة إعمار بيوتهم وتعويضهم عن الأضرار، قبل انتهاء الحرب كما حصل في حرب تموز 2006، إنما تلقّوا رسائل غير رسمية متداولة على منصات التواصل الإجتماعي تطلب من أهالي الضاحية الجنوبية العائدين إلى منازلهم "عدم إحداث أي تغييرات في المنازل والأبنية التي تضررت قبل توثيقها والكشف عليها من قبل اللجان المعنية" وذلك لتسهيل استفادتهم من التعويضات. فالأولوية اليوم لفتح الطرقات وتأهيلها لتسهيل حركة المرور وتأمين المباني من الأجسام الخطرة.
إشارات تطمينية أخرى تلقّاها عدد من سكان الضاحية جاءت عبر مجموعات الأحياء تنصح السكان بعدم إحداث أي إصلاحات في منازلهم قبل الكشف عليها للإستفادة من التعويضات. قد تصدق هذه الوعود، على الأغلب، وإن جاءت في ظروف مختلفة عما كانت عليه في الحرب السابقة، ولكن الأزمة التي تواجهها آلاف العائلات اليوم تتجاوز مسألة التعويضات وإعادة الإعمار. فالكثيرون باتوا عاجزين عن تأمين مساكن بديلة لأشهر إضافية وربما لسنوات ريثما تنتهي عملية ترميم أو بناء ما تهدّم. فثمة عائلات عاجزة عن سداد إيجارات منازلها البديلة لاسيما أن الإيجارات تفوق 1000 دولار بأحسن الأحوال في حين تستحصل تلك العائلات على بدلات مالية من "حزب الله" لا تتجاوز قيمتها 300 دولار للقاطنين في مناطق ساحلية و400 دولار في المناطق الجبلية. ولا تغطي الـ400 دولار للعائلة نصف تكلفة إيجار منزل من دون احتساب التدفئة وفواتير الكهرباء والماء وسواها.
أما الدولة فجاءت وعودها على لسان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي قال إن رحلة إعادة الإعمار قد انطلقت، من دون أن يوضح كيفية وآلية وتكلفة إعادة الإعمار وحجم الأموال المطلوبة والأهم من كل ذلك مصدر أموال إعادة الإعمار. باختصار لم تعِد الدولة المتضرّرين من الحرب فعلياً بأي شيء.أضرار الوحدات السكنية
لا تتقارب أعداد المباني التي تهدّمت بالكامل بين حربي 2006 و2024، فالمباني والوحدات السكنية التي تهدّمت في الحرب الأخيرة تبلغ أضعاف ما تهدّم عام 2006. وإن لم يكن من أرقام رسمية حتى اللحظة لعدم انتهاء مسح المناطق المتضرّرة غير أن التقديرات الأولية التي صدرت عن بعض المؤسسات غير الرسمية المحلية والدولية تفيد ببلوغ عدد الوحدات السكنية المهدمّة عشرات الآلاف.
وكان البنك الدولي قد قدّر عدد الوحدات السكنية التي تدمّرت كلّياً أو جزئياً بأكثر من 99 ألف وحدة سكنية. في حين قدّرتها "الدولية للمعلومات" بنحو 220 ألف وحدة سكنية، منها مدمّرة بالكامل وأخرى متضرّرة بشكل جزئي.
وقد ألحقت الحرب أضراراً واسعة في مناطق وقرى الجنوب والبقاع أدت إلى تدمير آلاف الوحدات السكنية كلّياً وتسوية قرى بأكملها بالأرض عند الحدود الجنوبية، منها الظهيرة، يارين، مروحين، كفركلا، العديسة، عيتا الشعب وسواها. أهالي هذه القرى وسواهم من العاجزين عن العودة إلى ديارهم يواجهون أزمتهم المعيشية منفردين لا يتلقون يومياً سوى الشعارات والتحايا.