"ويل لكل من يحاول تنفيذ هذه المذكرات الخارجة عن القانون. دعوني أذكرهم جميعًا بشكل ودي: القانون الأميركي بشأن المحكمة الجنائية الدولية معروف باسم "قانون غزو لاهاي" لسبب وجيه. فكروا في الأمر".
الاقتباس أعلاه من منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، يهاجم فيه السيناتور الجمهوري، توم كوتون، مذكرة التوقيف الصادرة في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت. بالفعل، يجيز قانون حماية أفراد الخدمة العسكرية الأميركيين، العمل العسكري لتحرير أي مواطن أميركي أو مواطن دولة حليفة محتجز لدى المحكمة في لاهاي. صدر القانون في العام 2002، أي في العام نفسه الذي شرعت المحكمة في ممارسة عملها، وقبل عام واحد من غزو العراق. وفي العام 2020، وعلى خلفية إعلان المحكمة عن فتحها تحقيق في جرائم الحرب في أفغانستان التي ارتكبتها جميع الأطراف، ومن ضمنها الولايات المتحدة، فرضت إدارة ترامب عقوبات على المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا ومسؤول آخر في الادعاء العام فاكيسو موشوشوكو. بالإضافة إلى ذلك، أعلن وزير الخارجية الأميركي مايكل بومبيو، أن الولايات المتحدة قيدت إصدار التأشيرات لبعض الأفراد الذين لم يذكر أسماؤهم، ولكن وصفهم بالمتورطين في جهود المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق مع أفراد أميركيين. وبنهاية العام 2021، تراجعت المحكمة تحت الضغط، وذلك بإعلانها أن التحقيق في تورط الولايات المتحدة في جرائم حرب في أفغانستان لم يعد أولوية، بحجة أن أفظع الجرائم قام بارتكابها تنظيم طالبان والدولة الإسلامية في خراسان.والحال، أن التوقيع على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في العام 1998، كان في أحد أوجهه تدشيناً لعدالة عالم القطب الواحد على أنقاض نظام القطبين، وذلك بعد حسم الحرب الباردة بشكل نهائي لصالح الولايات المتحدة والمعسكر الغربي. وكما في محاكمات نورمبيرغ، يفرض المنتصرون عدالتهم وبحسبها يحاكم الخاسرين وحدهم. وفي نظام دولي هيمن عليه لزمن قصير وهم نهاية التاريخ، كان من المفترض بالمحكمة الجنائية الدولية أن تكون نورمبيرغ دائمة وأبدية، حيث يمثل أمامها أعداء الامبراطورية الجديدة، والمتمردون عليها والخارجين على مبادئها وقواعدها. من ناحية أخرى، كانت الرغبة في بسط ولاية المحكمة على العالم بأكمله يعني ترسيخاً لعولمة قانونية، كما تشمل الاقتصادي والتجاري تمتد أيضاً إلى الجنائي. ولا يتعارض إعلان إدارة بوش في العام 2002 عن رفض التصديق على عضوية المحكمة، مع افتراض أنها أحد مؤسسات الامبراطورية الأميركية. فالسيادة المطلقة للولايات المتحدة في نظام القطب الواحد تعني أن تكون فوق سلطة القانون بالعموم.خلال تاريخها القصير، كان معظم مذكرات التوقيف التي أصدرتها المحكمة موجهاً ضد مسؤولين أفارقة، وذلك في إطار مساهمتها في ضبط الأطراف البعيدة للامبراطورية، أما الاستثناءات القليلة خارج القارة الأفريقية، فكانت موجهة ضد خصوم في حالة حرب مباشرة مع الغرب، كما في حالة صربيا في الماضي، وروسيا مؤخراً. وعلى تلك الخلفية، فإن مذكرات التوقيف الصادرة في حق نتنياهو وغالانت، تعد السابقة الأولى الموجهة ضد حلفاء الولايات المتحدة.
بلا مواربة أعلنت إدارة بايدن عن رفضها لقرار المحكمة، ومن المنتظر أن تقوم الإدارة الجمهورية المقبلة بقيادة ترامب، بفرض عقوبات على مسؤوليها أكثر قسوة من تلك التي فرضها في فترة حكمه الأولى. الحكومة المجرية من ناحيتها تعلن تحديها للمحكمة بدعوة نتنياهو لزيارتها، والدول الأوروبية الأخرى تعطي إشارات متضاربة. ويظهر أن المذكرة الأخيرة ستكون بمثابة تصويت دولي على مستقبل المحكمة ومصداقيتها.
في المحصلة النهائية، يأتي تهميش العدالة الدولية في سياق تراجع حماسة الولايات المتحدة للعولمة بالعموم لصالح "أميركا أولاً". ومع الصعود الاقتصادي الصيني والصدام المباشر بين روسيا والغرب، يبدو أن نظام القطب الواحد الذي تأسست من داخله المحكمة أضحى على المحك، أو على الأقل لم يعد راسخاً كما بدا في الماضي.