إضافة إلى الحيثيات القانونية الصلبة والمعتبرة، التي حضرت في قرار المحكمة الجنائية الدولية، بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وزير الأمن السابق يوآف غالانت، ثمة دلالات وشواهد تاريخية وفكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية مهمة تتعلق بالدولة العبرية نفسها لا يمكن إنكارها أو تجاوزها، حتى لو لم يتم تنفيذ الاعتقال بشكل فعلي بحق نتنياهو وغالانت.
قررت المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين في غزة، حيث بدت الحيثيات القانونية صلبة ومتماسكة وتضمنت استخدام الجوع كسلاح، والمنع المتعمد والمنهجي للماء والغذاء والدواء والكهرباء والوقود عن غزة، بغرض إنزال أشدّ العقوبات بهم وبشكل جماعي، بعد تنفيذ حركة حماس عملية طوفان الأقصى صباح 7 تشرين أول/أكتوبر 2023.
وكان المدعي العام للجنائية كريم خان قد بادر إلى طلب استشارة ثلة من الخبراء القانونيين المرموقين حول العالم، والذين أجمعوا على صوابية التهم وضرورة إصدار مذكرات الاعتقال، وهو الأمر الذي تؤكده الوقائع على الأرض لجهة ارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية بحق غزة وأهلها. وحتى لو لم يحصل الاعتقال فعلاً بحق نتنياهو وغالانت، فقد وقعت الإدانة والوصمة بحقهما وبحق الدولة العبرية ككل.
إضافة إلى هذا البعد القانوني الجوهري والمعتبر في قرار المحكمة المرموقة، ثمة شواهد ودلالات تاريخية وفكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية في قرار المحكمة يجب التوقف عندها، والتي لا تقل أهمية عن الجوهر القانوني كونها تمثل سابقة تاريخية لم تحدث من قبل لجهة إصدار مذكرة اعتقال ذات طابع أممي بحق قادة إسرائيل، مع استحضار مذكرة الاعتقال البريطانية الشهيرة بحق إسحق شامير زعيم حزب "ليكود" ورئيس الوزراء السابق، والعرّاب السياسي لنتنياهو، بتهمة قتل الكونت فولك برنادوت، ولكنها على أهميتها التاريخية، لم تأخذ الطابع الدولي، ولم تصدر عن أهم منبر قضائي في العالم - الجنائية الدولية - والتي لا يمكن التشكيك في مهنيتها واستقلالها ونزاهتها وحياديتها.
هذا يعني أننا أمام أمر لم يحدث من قبل ويؤكد حقيقة أن صورة إسرائيل كدولة تستطيع أن تفعل ما يحلو لها، قد انتهت، علماً أنها انهارت بشكل تدريجي وبطيء ولكن متواصل عبر السنوات والعقود الماضية. وتحديداً مع الانتفاضتين الأولى عام 1987، والثانية عام 2000، اللتين نسفتا رواية إسرائيل عن كونها الضحية المزعومة، مع وجوب الانتباه إلى أهمية مخاطبة الرأي العام العالمي بلغة يفهمها تشرح مظلوميتنا وعدالة قضيتنا بوسائل مشروعة وسلمية بعيداً عن خطف الطائرات والرهائن والتفجيرات في المدن والساحات الأوروبية والعالمية الكبرى.
هذا تاريخياً، أما في السياق الفكري، وفيما يخص فلسلفة وجود المحكمة الجنائية باعتبارها منتدى يعبر عن تفوّق الغرب الديمقراطي والمتحضر بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، وجرى تأسيسها لمحاكمة المستبدين في الجنوب والعالم الثالث، وحتى في أوروبا نفسها كما رأينا بمذكرة الاعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكنها الآن باتت تلاحق إسرائيل التي تدعي الديمقراطية والانتماء للعالم الغربي الحامي والداعم لها، بينما هي بالحقيقة ديمقراطية لليهود، ويهودية وعنصرية للعرب.
غير أن هذه الصورة عن إسرائيل كدولة ديمقراطية تتآكل حتى في الغرب نفسه، بدليل إصدار مدعي عام بريطاني لمذكرة الاعتقال من محكمة أقيمت في بيئة غربية مع تحجيم المنظومة القضائية الإسرائيلية وعجزها عن التحقيق بحرب غزة والجرائم التي ارتكبت علانية وعلى الهواء فيها، كترجمة لتصريحات وسياسات تبنتها الحكومة ورئيسها ووزير أمنها المقال.
وعليه، تعبّر مذكرات الاعتقال ولوائح الاتهام في جانب منها أيضاً، عن قاعدة هنري كيسنجر الشهيرة القائلة إن إسرائيل لا تملك سياسة خارجية بل داخلية فقط، حيث رفض نتنياهو تشكيل لجنة تحقيق رسمية بالحرب وما تخللها، خوفاً من رحيله عن السلطة وانتهاء حياته السياسية وربما دخوله السجن بتهم الفساد والرشوة وسوء استغلال المنصب، كما رفض إنهاء الحرب مبكراً بعدما استنفذت أغراضها منذ أيار/مايو الماضي، ما سمح أخيراً بصدور مذكرات الاعتقال التي تغطي الفترة ذاتها من تشرين الأول 2023، حتى أيار الماضي.
في السياق الفلسطيني، كان تدخل المحكمة بالقضية وفق ميثاق روما المؤسس تنفيذاً لانضمام الدولة الفلسطينية للمحكمة ومصادقتها على الميثاق، وبالتالي الاعتراف بولاية المحكمة على أراضيها – ضمن حدود حزيران/ يونيو 1967، كترجمة مباشرة لرفع مكانة فلسطين في الأمم المتحدة، وطلبها التحقيق بممارسات وجرائم الاحتلال، والذى يغطي الأراضي المحتلة كلها –غزة والضفة الغربية بما فيها القدس- ما يعني إنه سيطال حكماً الاستيطان والتهويد والفصل العنصري في الضفة، وفتح الباب أمام إصدار مذكرات اعتقال أخرى بحق المسؤولين عن هذه السياسات من سياسيين وعسكريين.
في ردود الأفعال على مذكرات الاعتقال، شهدنا الانفصام والازدواجية المعتادة من الغرب، على الرغم من تعاطي العواصم الكبرى إيجاباً بشكل عام، خصوصاً في أوروبا، باستثناء واشنطن التي أظهرت ازدواجية موصوفة تجاه القضية الفلسطينية مع ترحيبها بمذكرة اعتقال بوتين ورفضها مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت، على الرغم من صدورهما عن نفس المؤسسة القضائية المرموقة.
في كل الأحوال، أكدت مذكرات الاعتقال عزلة إسرائيل وقيادتها وستدفع مزيداً من الهواء في أشرعة المساعي، والجهود للعمل على ترجمة هذه العزلة عبر خطوات ملموسة ومزيد من العقوبات والمقاطعة العالمية للدولة العبرية اقتصادياً، مع تأثير سلبي كذلك على الصفقات العسكرية تصديراً واستيراداً.
كما تؤكد المذكرات، العلاقة بين المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية، والتأثير الإيجابي المتبادل بينهما، لجهة دعوى جنوب أفريقيا التي تتهم إسرائيل كدولة، بارتكاب الابادة لجماعية ضد الفلسطينيين في غزة. وتبدو الدعوى هناك رابحة أو مضمونة، نظراً للأدلة الصلبة وقبول الجنائية توجيه نفس التهمة إلى نتنياهو وغالانت.
في الأخير، باختصار وتركيز، نحن كفلسطينيين مطالبين بأن نقرأ ونفهم ونستنتج، حيث أكد المستجد القضائي وحيثياته ودلالاته المتعددة الاتجاهات، والأبعاد، مرة جديدة الحاجة الماسة إلى قيادة وعقل مرجعي فلسطيني أعلى لوضع آليات وسيرورة المضي قدماً في الصراع بأبعاده المختلفة، والاستفادة من تسارع سيرورة محاسبة إسرائيل ووقف افلاتها من العقاب ونقل الأحكام والفتاوي القضائية للجنائية والعدل الدولية إلى ساحات الرأي العام العالمي، لحصد مزيد من التأييد للرواية والقضية الفلسطينية والضغط على الحكومات خاصة في الدول الديمقراطية الكبرى والمؤثرة، التي لا تزال داعمة وحامية للدولة العبرية وممارساتها.