منذ عدة سنوات، سنحت لي الفرصة للمشاركة في ندوة أكاديمية حول الربيع العربي، نُظّمت في الجزائر العاصمة، بمشاركة من كبار الأساتذة والباحثين من مختلف الدول العربية التي عرفت بشائر هذا الربيع قبل وأدها، إضافة إلى باحثين وباحثات من بلاد أوروبية عدة، مهتمين وكاتبين عن المنطقة العربية بتنويعاتها المختلفة. الجلسات عُقِدَت في مدرّج كبير يتوسط العاصمة. وكان الحضور كثيفًا ومتعطّشًا ليس فقط للتلقي، بل أيضًا للمشاركة في النقاش. وفي تلك الحقبة الزمنية، كان من الصعب بمكان أن يقتنع المتابع المغاربي، تونسيًا كان أم مغربياً أم جزائريًا، بمشروعية وعدالة مطالب الشعب السوري، الذي خرج عديد من أفراده للاحتجاج على القمع والعنف الدموي والفساد والحرمان من أي حق من حقوق الانسان مهما تضاءلت. وكان المنتشر حينذاك لدى العامة المغلوب على وعيها والنخبة التي تتلاعب بوعيها وبوعي العامة، بأن ما يجري في سوريا هو مؤامرة امبريالية ضد نظام تقدمي يقارع الاحتلال الإسرائيلي والمشروعات التدميرية التي تحاك خططها في غرف مظلمة في دول الشمال. نظرية المؤامرة سادت إذًا في الكثير من الأوساط، وقد زادها حجةً بروز التنظيمات الإسلامية من معتدلة إلى متطرفة في المشهد العربي عمومًا والسوري خصوصًا. وهذا ما أراح النفس من تبرير السلبية ورمى بكل الاتهامات نحو الإسلاميين مهما اختلفت مدارسهم ومشاربهم ومشاريعهم. مهمتي إذاً كانت صعبة للغاية في توضيح الصورة الأقرب إلى الواقعية فيما يتعلق بالتاريخ السياسي المعاصر لسوريا، كما في تفنيد الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحتى البيئية، التي أوصلتنا إلى ما كنا عليه في ذاك الوقت.بعد انتهاء مشاركتي والنقاش الذي تلاها، وكان واضحًا وثريًا وهادئًا، تقدّم مني بعض من كانوا في الصفوف الأولى وعرّفوني بذواتهم، وهم كانوا من النخبة الثقافية المحلية. فمنهم الناشر ومنهم الروائي ومنهم الصحافي. ولقد غمروني ثناءً مبالغًا به، كان حرّيًا بي أن انتبه إليه وأشكك بدوافعه. لكن توتري وانتظاري للأسوأ أبعد عني أي شكٍ في نواياهم. وأصروا على دعوتي إلى العشاء، فقبلت شاكرًا رغم تعبي، لأنني أفخر بدعوة كنت أظنها من خيرة الكتّاب وأنبلهم. وعند الوصول إلى المطعم البعيد عن كل حياة مدنية، بدأوا بتغيير لغة الخطاب الموجه لي، وصارت جملهم مليئة بالاتهامات المجحفة، وبلغة تهديدية لا ريب بأنها غريبة عن كل صاحب قلم وقيم. كنت العميل المعادي والذي يخضع لأجندات غربية لإضعاف الصمود والتصدي وكذا "وهن عزيمة الأمة". وتلك التهمة الأخيرة أعادتني إلى حضن بلادي افتراضيًا. فلقد كانت التهمة المفضلة لكي تزج بالآلاف في غياهب الظلم والظلام. ومع تصاعد حدة كلماتهم وتعابير سحناتهم، نجحت بالهروب من هجماتهم المستمرة بمساعدة صحافي وجد في أسلوبهم تركيزًا عاليًا من الجهل والتجاهل، ومن انعدام الذوق الإنساني وجلّهم "أدباء".تذكّرت هذه الواقعة المؤلمة بعد أن تابعت الحملة شديدة اللهجة على الكاتب بو علام صنصال الموقوف رهن التحقيق بعد وصوله إلى مطار بلده الجزائر. وتخيّلت طبعًا دور كل ممن استضافوني بالعضلات على عشاء هربت منه، من دون أن أنبس بكلمة ولا أن أبلع لقمة. ورأيتهم ينهالون على الصنصال بمواهبهم التخوينية وبمفرداتهم التكفيرية. وفجأة، تذكرت أيضًا بأنني رفضت منذ سنوات قريبة مشاركة هذا الكاتب في جلسة حوارية في معرض للكتب في مدينة جنيف. فوقعت حينئذ بالحيرة من موقفي، فهل أنا مندّدٌ مبدئيًا باعتقال كاتب لمحاسبته على ما كتب، أم أنني قادر على إيجاد التبريرات لهذا الإجراء، مستندًا إلى اشمئزازي الإنساني والادبي والسوسیولوجي بما تفوه به لكسب قارئٍ غربي يظن هو بأن كراهية الذات وشتم الأصول هي أقرب الطرق إلى قلبه، وهو في هذا جليل الخطأ. جلّ تصريحاته تغازل لغة العداء للأجانب وكراهة الإسلام وعنصرية يمينية متطرفة، حرية بإيريك زيمور صاحب التوجهات الإقصائية والإحلالية. بل يكاد يتجاوز اليمين المتطرف الفرنسي في مواقفه بحثًا عن شيء لم يجده حتى الآن كما يبدو. ومما يعزز هذا الكلام، أن جلّ من ندّد باعتقاله هم من جماعات اليمين المتطرف ومن لاذ بهم من مجموعة الربيع الجمهوري الذين يدّعون اليسارية. كما ثار أصدقاء إسرائيل الذين لم يقرؤا له سطرًا ضد اعتقاله، وذلك فقط لأنه زار إسرائيل وعبّر عن إعجابه بحضارتها من دون أن ينبس ببنت شفة فيما يخص حقوق الفلسطينيين. لقد "ملأ كل المربعات" كما يقول الفرنسيون لكي يحظى بهذا الاهتمام الإعلامي. لكن هل هذا يُبرّر الصمت عن اعتقاله؟بالنسبة لي، لا مبرر لاعتقال صاحب رأي مهماً كان هذا الرأي مختلقًا وممجوجًا ومُدانًا أدبيًا وأخلاقيًا، أضف إلى ذلك وسواه، بأن ما قامت به السلطات لا يعكس غيرة وطنية تجاه من اعتبروه مشككًا بجزائرية التراب الوطني، لأن هذه "الغيرة" اختفت أمام مصير آلاف العاطلين عن العمل ومئات الهاربين في قوارب الصيد إلى شواطئ الشمال، حيث لم يعد لهم مرقد عنزة في أرضهم الغالية، التي استشهد أجدادهم لتحريرها ولتصنيعها ولتعزيز ثرائها الطبيعي بقدرات بشرية رفيعة التكوين. الاهتمام بهم وبسواهم من أهل هذا البلد العظيم يُحافظ أكثر على هيبة الأمة وعلى حمى الوطن من ملاحقة كاتب، مهما هرف به هذا "الكاتب".