في آخر تقاريره، لفت برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أنّ الحرب والانهيار الاقتصادي أديا معًا إلى خسارة كبيرة في رأس مال البلاد البشري، وخصوصًا بعد هجرة أعداد كبيرة من "المهنيين والعمال المهرة". وربط التقرير ما بين هذه الخسائر من جهة، وفقدان الدعم المالي لقطاعات التعليم والرعاية الصحيّة ونظم الحماية الاجتماعيّة، والتي تحول دون وقف هذا الاستنزاف البشري. وكان تقرير المنظمة السابق قد استند أصلًا إلى أرقام مطار بيروت، التي تعكس حجم النزيف البشري في بدايات الحرب في جنوب لبنان، من خلال الفارق بين أعداد الوافدين والمغادرين.2024: استكمال موجة الهجرةالأرقام التي نشرها مطار بيروت لأعداد المغادرين والوافدين هذه السنة، تعكس بوضوح آثار توسّع الحرب منذ أواخر شهر أيلول الماضي. فخلال الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي، بلغ عدد الوافدين إلى المطار 2.455 مليون شخص، بانخفاض نسبته 19.8% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، والتي شهدت توافد 3.064 مليون شخص. مع الإشارة إلى أنّ عدد الرحلات نفسه تراجع أيضًا بين الفترتين، لينخفض إلى 21 ألف رحلة وافدة خلال الأشهر العشرة الأولى من السنة، وهو ما أظهر تراجعًا بنسبة 16.4% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
في المقابل، تشير الأرقام إلى أنّ أعداد المغادرين شهدت انخفاضًا موازيًا، من 3.225 مليون مغادر خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي، إلى 2.633 مليون مغادر خلال الفترة المماثلة من هذا العام، أي ما يعكس تراجعًا بنسبة 18.4%. وفي الحالتين، تشير جميع هذه الأرقام إلى الانتكاسة التي أصابت القطاع السياحي خلال هذه السنة، مقارنة بالأشهر التي سبقت بدء المواجهات في الجنوب خلال العام الماضي، وهو ما أدّى إلى تراجع أرقام الوافدين والمغادرين على حدٍ سواء.
في النتيجة، وعند الأخذ بعين الاعتبار الفارق بين أعداد الوافدين والمغادرين هذه السنة، يتبيّن أن لبنان شهد خلال العام 2024، ولغاية شهر تشرين الأوّل الماضي، مغادرة 178 ألف شخص باتجاه واحد. وهذا ما شكّل استكمالًا لموجة الهجرة التي بدأت منذ اندلاع الاشتباكات في جنوب لبنان خلال العام 2023، قبل توسّع الحرب مؤخرًا.حركة المعابر البريّة لا تختصر أرقام المطار وحدها إجمالي حركة المغادرة من البلاد خلال العام الراهن. فمراجعة أرقام الأمن العام اللبناني، تُظهر أنّ المعابر البريّة شهدت بين شهري أيلول وتشرين الثاني 2024 مغادرة أكثر من 585 شخص، في مقابل دخول نحو 194 وافد، وهو ما يعكس خروج أكثر من 391 ألف شخص باتجاه واحد خلال تلك الفترة. ومن المعلوم أنّ هذه الموجة ارتبطت بعدّة عوامل، ومنها عودة جزء من النازحين السوريين إلى بلدهم، ونزوح أعداد من اللبنانيين إلى العراق وسوريا، أو مغادرتهم باتجاه بلدان أخرى عبر مطار عمّان دولي تلافيًا للمخاطر المحيطة بمطار بيروت.
ولهذا السبب، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أنّ حركة المعابر البريّة، تعكس بالفعل أعداد المُغادرين من البلاد خلال فترة الحرب، لكنّها لا ترتبط، بقدر ارتباط مطار بيروت، بحركة الهجرة الدائمة أو الخروج باتجاه واحد، خصوصًا أن حركة النزوح الأخيرة في بداية الحرب تظل حركة مؤقّتة. وعلى أي حال، يبقى من المفيد التذكير بأن صافي المُغادرين باتجاه واحد عبر المعابر البريّة تنقسم على النحو التالي: نحو 99 ألف مغادر من الجنسيّة اللبنانيّة، ونحو 292 ألف مغادرة من الجنسيّة السوريّة. أمّا أعداد المغادرين من جنسيّات أخرى فتبقى غير مؤثّرة في العدد الأجمالي.بدايات موجة الهجرة وفقًا لأرقام المطار أيضًا، غادر لبنان خلال العام 2023 ما مجموعه 3.634 مليون راكب، مقارنة بـ 3.487 مليون وافد خلال الفترة نفسها. وبهذا الشكل، تكون حصيلة تلك السنة مغادرة 147 ألف راكب باتجاه واحد، كنتيجة بديهيّة لموجة الهجرة التي أطلقتها المواجهات في جنوب لبنان، منذ تشرين الأوّل 2023. وتجدر الإشارة إلى أنّ أرقام المطار نفسها تدل على أنّ نحو 100 ألف شخص، من أصل هؤلاء المغادرين، غادروا البلاد خلال الشهر الأوّل من الحرب، وهو ما يدل بوضوح على ارتباط هذه الأرقام بالتوتّرات العسكريّة التي شهدها لبنان خلال تلك الفترة.
لكنّ إضافة حركة المعابر البريّة يمكن أن ترفع هذا الرقم إلى مستويات أعلى. إذ بحسب أرقام الدوليّة للمعلومات، بلغ عدد المهاجرين اللبنانيين خلال العام 2023 أكثر من 175 ألف شخص (صافي الحركة بين الوافدين والمغادرين)، مقارنة بـ 59 ألف شخص فقط خلال السنة السابقة. أي بمعنى أوضح، ارتفعت -بين السنتين- حركة الهجرة من لبنان بنسبة 196%، أو يمكن القول أيضًا أنها تضاعفت بنحو 2.96 مرّات بين الفترتين. الأزمة الاقتصاديّةمن الناحية العمليّة، بدأت البلاد بتلمّس أولى تداعيات الضغوط الماليّة والنقديّة من العام 2012، أي في السنة التي تلت تسجيل أوّل عجز في ميزان المدفوعات. ومنذ ذلك الوقت، تفاقمت عوارض هذه الضغوط، قبل انكشاف عمق الأزمة المصرفيّة عام 2019، ومن ثم الدخول في نفق الانهيار المالي الكبير. وعلى مرّ تلك السنوات، كان الاقتصاد اللبناني يدفع ثمن هذه التطوّرات، على شكل انحسار في حجم سوق العمل، ومن ثم تنامي أعداد المهاجرين سنويًا.
الرقم الإجمالي لحركة الهجرة من لبنان، بحسب أرقام الدوليّة المعلومات، يقارب الـ 621 ألف لبناني بين الأعوام 2012 و2023، أي خلال 11 سنة من عمر "العقد الضائع" اللبناني. مع العلم أن عام 2019 شهد ذروة حركة الهجرة هذه، عندما غادر نحو 67 ألف شخص البلاد، بتأثير من الانهيار الشامل الذي وقع في الربع الأخير من العام. وخلال السنوات الثلاث الأولى التي تلت الانهيار، غادر البلاد أكثر من 195 ألف شخص.
إذا أضفنا عدد المهاجرين -لأسباب اقتصاديّة- منذ العام 2012، إلى عدد المغادرين منذ بداية هذه السنة باتجاه واحد عبر المطار، مع أعداد اللبنانيين الذي غادروا عبر المعابر البريّة، ستكون الخلاصة مغادرة 898 ألف شخص البلاد خلال 12 سنة، بفعل عوامل الأزمة والحرب. وهذا الرقم يستثني طبعاً النازحين السوريين الذي غادروا طوعًا عبر المعابر البريّة، منذ بداية هذه الحرب، كما يستثني العرب والأجانب الذين غادروا البلاد بالطريقة نفسها، لأسباب متصلة بالوضع الأمني في لبنان. السؤال الأهم هنا، سيرتبط بأثر هذه الحركة الديموغرافيّة على المجتمع اللبناني، بعد تفريغه من الكفاءات الشابّة بهذا الشكل.