بعد فيلميه "قراقوز" (2011) و"النهر" (2013)، يختار المخرج الجزائري عبد النور زحزوح، عنواناً لفيلمه الأخير من بين الأطول في تاريخ السينما، وهو "الوقائع الحقيقية لمستشفى الأمراض النفسية بالبليدة-جوانفيل في القرن الماضي، عندما كان الدكتور فرانز فانون رئيس القسم الخامس بين عامي 1953 و1956". الفيلم الذي يتوافق صدوره مع الذكرى السبعين لثورة التحرير الجزائرية، لا يركز على فانون، كاتب "البؤساء في الأرض"، المفكر الما-بعد استعماري الأكثر تأثيراً إلى اليوم، بل بالأحرى فانون الطبيب الذي يختبر العنف الكولونيالي خلف جدران مصحّ عقلي في الجزائر الفرنسية.
وصل فانون إلى البليدة، بعد نشر كتابه "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء" وتحصيل اسمه بعض من الشهرة بالفعل، ما حفز جبهة التحرير الوطني الجزائرية للتواصل معه سراً. يطلعنا الفيلم على بعض إشارات إلى ذلك التواصل، وعلى مشاهد لمحاضراته العامة المناهضة لاستعمار الجزائر، وعلى تلميحات في شأن الحرب المستعرة في الخارج التي نرى أثر فظاعاتها ولا نرى تفاصيل معاركها. لكن داخل مستشفى البليدة، تظل السياسة الرسمية إنه ليس ثمة حرب في الجزائر. من تلك المفارقة الأولى، تتشعب ضروب من الخلل.بمجرد وصوله، يصطدم فانون بالأوضاع المزرية لنزلاء المستشفى، وبالفصل العنصري بين المرضى الفرنسيين والمرضى الجزائريين في عنابر مختلفة، وبمشهد المرضى المقيدين إلى جذوع الأشجار لمنعهم من الحركة. وسرعان ما يقوم بإدخال تعديلات راديكالية على نظام العلاج، أولها مناداة النزلاء بأسمائهم الحقيقية، والسماح لهم بارتداء ملابسهم الخاصة، ثم يتم إنشاء مقهى للمرضى داخل المستشفي، وللمرة الأولى يقام قداس لعيد الميلاد يضم النزلاء والطاقم الطبي معاً، فيما يُنظّم احتفال للنزلاء الجزائريين بمناسبة المولد النبوي، بل ويأخذ فانون بنفسه أحد مرضاه ليتلقى علاجاً تقليدياً على يد أحد المشايخ.اعتماداً على جهد بحثي في ملاحظات فانون الشخصية ومذكراته بشأن تلك الفترة، ولقاءات مع مَن عاصروه أثناء إقامته في الجزائر، يقدم زحزوح فيلماً يمكن تصنيفه تحت خانة الوثائقي-الدرامي، وما يضفي عليه المزيد من المصداقية هو التصوير في المواقع الأصلية للأحداث، أي المستشفى الذي أصبح يحمل اسم فانون اليوم، وتحمل أجنحته أسماء الممرضين ممن استشهدوا أثناء القتال في حرب التحرير. اختيار التصوير بالأبيض والأسود، أداة أخرى للإيحاء بتاريخية العمل وبمضاهاته للوقائع الأصلية، وبالأخص حين تُعرض في نهاية الفيلم لقطات أرشيفية مصورة في المستشفي وباحاتها الخارجية، تفاجئنا بأثر رجعي بقدر الجهد المبذول في محاكاة الماضي، أي نسخ الكادرات والملابس وتنسيق حركة المجموعات بل وحتى اختيار الممثلين لتشبه ملامحهم الوجوه الحقيقية التي نراها في التسجيلات المصورة. تلك الرغبة في المحاكاة، كما قد تكون نقطة قوة، قد تكون أيضاً نقطة ضعف.ثمة رتابة ما في الظلال الباهتة للتصوير بالأبيض والأسود، وفي الأداء التمثيلي أحياناً والإيقاع الفاتر للفيلم، وهو ما يتعارض مع أسلوب كتابة فانون الناري والمندفع. ولعل بعض من تلك الرتابة مقصود، ليعكس الروتينية المخيفة لفظاعة الاستعمار. ففي أحد المَشاهد الأكثر تأثيراً في الفيلم، يشكو ضابط الشرطة الفرنسي لفانون الطبيب، من اضطرابات في النوم، وهو يسرد له مهامه اليومية المضنية المتمثلة في التعذيب الذي لا يتوقف للسجناء الجزائريين. في مشهد آخر، يخبره طفلان تجلبهما الشرطة إلى عيادته، بأنهما قتلا طفلاً فرنسياً كان يلعب معهما، وذلك ثأراً لذويهم الذين قتلوا على أيدي القوات الفرنسية في مذبحة جماعية، يفعلان ذلك ببراءة وبهدوء مرعب ومن دون أي شعور بالذنب. في الحالتين، نرى على وجه فانون المتحفظ تعابير صدمة مكتومة تعكس الرسالة المركزية للفيلم ولأعمال فانون اللاحقة، أي تلك العلاقة الوثيقة بين العنف الإمبريالي والاضطراب العقلي ونزع الإنسانية عن المستعَمرين والمستعِمرين معاً.