على وقع الضبابيّة الّتي تلّف مصير المفاوضات الأميركيّة بين إسرائيل ولبنان في سبيل إنجاز تسويّة لوقف إطلاق النار، شهد الميدان، تطوراتٍ متسارعة تحمل مؤشرات تصعيديّة إسرائيليّة، أبرزها دخول القوّات الإسرائيليّة إلى بلدة دير ميماس وقطع طريق الخردلي، ومحاولة التوغّل نحو الناقورة عبر وادي حامول، والسعي إلى إقامة سواتر ترابية عند مثلث دير ميماس - تلّ النحاس - القليعة في محاولةٍ لفصل منطقة مرجعيون عن النبطية. ويأتي ذلك، مع أنباء عن تمركّز قوّة مؤللة من الوحدة الفرنسيّة التابعة لقوّات "اليونيفيل" في إحدى الطرق بين بئر السّلاسل وخربة سلم، بمرافقة جرافة وكلاب بوليسيّة لفتح طريق أقفلتها الغارات بالردم. فيما أشارت تقاريرٌ ميدانيّة لكون هذا التحرك قوبل برفض قيادة جنوب الليطاني في الجيش الّلبنانيّ الّتي امتنعت عن منح الإذن لهذه القوّة بالتحرك، وفق ما أشارت مصادر عسكريّة.
وتأتي التطورات الميدانيّة كامتدادٍ للمحاولات الإسرائيليّة الحثيثة لإنجاح أهدافها في توغّلها البريّ في مرحلته الثانية بعد إنهاء المرحلة الأولى، التي وُصفت بـ"استطلاع بالنار" (راجع "المدن"). في هذه المرحلة، تحاول إسرائيل السيطرة على المناطق الحدوديّة وفي القطاعات الثلاثة (الغربيّ، الأوسط والشرقيّ) في ظلّ تغييرٍ واضح لاستراتيجيتها القتاليّة مقارنةً بالحروب السّابقة، في عمليات تتراوح بين المحدودة ومواجهات مفتوحة.
للوقوف على أبعاد هذا التصعيد وتحليل الوضع الميدانيّ في الجنوب، تواصلت "المدن" مع كل الخبير في الشؤون الاستراتيجيّة، العميد الركن بسام ياسين، والخبير العسكريّ، العميد الركن المتقاعد حسن الجوني.حقيقة التقدّم الإسرائيليّ ميدانيًّايرى الجوني، أن ما يحدث على الأرض يعكس محاولات إسرائيليّة لتقديم صورة توحي بأنها تحقق إنجازات كبيرة، قائلًا: " الإسرائيليون يحاولون، من خلال هذه الأنشطة القتالية وإقامة هذه العمليات، تقديم مشهد يوحي بأنهم يحققون إنجازات كبيرة. لكن لماذا نقول إن هذه الإنجازات لا يُعتد بها؟ لا شك أنه قد حدث تقدم معين، لكن على سبيل المثال، لم يتمكن الإسرائيليون حتى الآن من السيطرة على البياضة بشكل كامل، وهذا يُظهر محدودية إنجازاتهم على الأرض في الوقت الراهن". مضيفًا: "حزب الله يدافع بطريقةٍ ديناميكيّة، حيث يتراجع ويتقدم بناءً على تقدّم العدو الإسرائيليّ. تراجعه لا يعني تخليه عن المواقع، بل هذه هي فلسفة عمل المقاومة، أو ما يُعرف بحرب العصابات. هذه هي طبيعة حرب العصابات الجارية حاليًا".
يشدّد العميد الجوني على أنّ التوغلات الحاليّة لم تتجاوز ثلاثة كيلومترات داخل الحدود اللبنانية. وفي القطاعات المختلفة، يشير الجوني إلى أن "القطاع الغربي يشهد محاولات مستمرة لمهاجمة الناقورة، مع تحركات تهدف للسيطرة على مناطق مثل شمع والبياضة. ورغم دخول الإسرائيليين إلى شمع، إلا أنهم يواجهون استهدافات مستمرة تحول دون تثبيت سيطرتهم بشكل كامل".
أما في القطاع الشرقي، فيوضح الجوني أن "معركة حاسمة تدور في الخيام، حيث عدّل الجيش الإسرائيلي استراتيجيته الهجومّية معتمدًا على مناورة الالتفاف لمهاجمة الخيام من الخلف عبر قرى مثل إبل السقي. هذه المناورة تهدف إلى التوغل بعمق ومهاجمة الخيام من الجهة الخلفية. المعارك في هذه المنطقة تتركز أكثر على الأسلحة غير المباشرة، حيث يستخدم الإسرائيليون القصف الجويّ والمدفعيّ، بينما يقصف حزب الله الإسرائيليين في وادي العصافير والمناطق المحيطة بالخيام بالصواريخ والمدفعيّة".من جهة أخرى، يرى الخبير في الشؤون العسكرية والاستراتيجية، العميد الركن بسام ياسين، أن تقدم الجيش الإسرائيلي لا يزال محدودًا وغير كافٍ لتحقيق هدف تفكيك المنظومة الدفاعيّة لحزب الله. قائلًا: "رغم مرور خمسين يومًا من بدء العمليات، لم يتمكن الإسرائيليون من التقدم لأكثر من خمسة إلى خمسة كيلومترات ونصف، كما أن هذا التقدم لم يُترجم إلى سيطرة فعليّة على الأرض". ويتابع ياسين: "الإسرائيليون يتبعون نهجًا حذرًا للغاية، معتمدين على التوغّلات المحدودة في المناطق القريبة من الحدود. يخشون المواجهات المباشرة، ولهذا فإن دخولهم يكون في مناطق محددة وبشكل حذر للغاية، دون القدرة على تحقيق أي تقدم عميق، وهذا ما يجعلنا نقول إنّ السيطرة الكاملة على المنظومة الدفاعية لحزب الله ما زالت بعيدة المنال".استمرار التوتر في النقاط الأماميّةبالعودة إلى تحليل العميد حسن الجوني، فهو يرصد وجود "محاولات إسرائيليّة للسيطرة على مناطق استراتيجيّة مثل الناقورة، إلا أن حزب الله يتصدى لهذه المحاولات بفاعليّة". ويؤكد أن "جبهة بنت جبيل لا تشهد اشتباكات حاليًا"، مرجعًا ذلك إلى "تركيز الإسرائيليين على جبهات أخرى، مثل الخيام، التي تعتبر الجبهة الرئيسية في الوقت الراهن".
يشير الجوني أيضًا إلى أن "التركيز الحالي على مناطق مثل الخيام والناقورة يعكس نيّة إسرائيليّة لتعزيز السيطرة على المحاور الاستراتيجيّة، ولكن حزب الله يستمر في الدفاع بشكلٍ مستمر وديناميكيّ، مما يجعل محاولات التقدّم الإسرائيليّة غير فعّالة". هذا التوتر المستمر على المحاور الأمامية يعكس التصعيد المتواصل والرغبة في فرض أمرٍ واقعٍ ميدانيّ.
أما وبحسب ياسين، فإنّ "التقدّم الذي حصل خلال الأيام الماضية كان بطيئًا جدًا، حيث لم يتجاوزوا بضعة كيلومترات إضافية، وحتى في هذه المناطق الأمامية لم يتمكنوا من تثبيت سيطرتهم الكاملة. قائلًا: "دخولهم يتم في مناطق محددة، وبشكل حذر، وهم يخشون المواجهات المباشرة. أما بالنسبة لوضع البيّاضة، فالمنطقة ما زالت تحت سيطرة المقاومة، والإسرائيليون لم يتمكنوا من تحقيق أي اختراق استراتيجي هناك".استراتيجيات الاستنزاف يعتقد العميد الركن بسام ياسين أن "الاستراتيجيّة الإسرائيليّة الحالية تعتمد على استنزاف حزب الله عبر الضغط المستمر، إلا أن هذا النهج لم يحقق نتائج حاسمة حتى الآن". ويشير إلى أن "الإسرائيليين لم يتمكنوا من تثبيت سيطرتهم في أي من المناطق التي توغّلوا فيها، مما يدل على فعالية تكتيكات حزب الله في التصدي لهذه المحاولات".ويوضح أن "استراتيجية الاستنزاف لا تهدف فقط إلى إضعاف المقاومة ميدانيًا، بل أيضًا إلى محاولة خلق بيئة تفاوضية ضاغطة، حيث يتمّ استخدام التوغلات والضغط الميداني كوسيلة لتعزيز الموقف التفاوضي لإسرائيل. ومع ذلك، فإن حزب الله، بتكتيكاته المرنة واستراتيجيته الدفاعيّة الديناميكية، نجح في مواجهة هذه المحاولات".
وفيما يتعلق بالمفاوضات، يوضح ياسين أنه "من المبكر الحديث عن نجاحها في هذه المرحلة، إذ لا توجد مؤشرات واضحة على وجود توافق قريب". مشيراً إلى أن "الإسرائيليين لا يزالون يضعون شروطًا صعبة، مما يجعل الوصول إلى اتفاق أمرًا بعيد المنال". ويتفق الجوني مع هذا الرأي، حيث يرى أن "المفاوضات تتطلب ظروفًا أفضل ووقتًا أطول لتحقيق نتائج ملموسة".
عمليًّا، وفي ضوء هذه التطورات المتسارعة، تبدو الصورة الميدانية معقّدة جدًا. فبينما يسعى الإسرائيليون لتحقيق مكاسبٍ ميدانيّة وإضعاف المنظومة الدفاعيّة لحزب الله في أسرع وقتٍ ممكن وقبل إنجاز أي تسويّة، يعتمد حزب الله على استراتيجيّة حرب العصابات والديناميكيّة في التحركات للتصدي للتوغلات الإسرائيليّة. فيما يبقى الوضع على الحدود مفتوحًا على كافة الاحتمالات، بانتظار ما ستسفر عنه الفترة المقبلة من تطورات.