لم يسبق ان تعرضت، الدولة اللبنانية كفكرة وصورة، الى البهدلة والتهشيم والإهمال، وصولا الى الاستغناء عنها وجعلها من دون قيمة، كما حصل خلال اليومين الماضيين؛ وذلك استكمالا لما جرى خلال السنوات المنصرمة، منذ ان دخل سائق دبابة الميركافا السابق، عاموس هوكشتاين الى ملف الاتصالات والمفاوضات مع لبنان على الحدود البحرية سابقا وعلى وقف اطلاق النار مع العدو راهنا.
دار في السابق وتحديدا، في الأشهر الأخيرة للعهد الميمون للرئيس العماد ميشال عون، سباق محموم مسرع الخطوات، منقطع الانفاس، للوصول الى اتفاق بشأن الحدود المائية البحرية وما رافقها، من اتفاقات للتنقيب على النفط، من اجل تحقيق هدف واحد وفريد، وهو تسجيل انجاز ما ولو وحيد، لعهد عون قبل رحيله، حتى يقال انه انجز امرا ما في رئاسته المشؤومة.
ولهذه الأسباب تم القفز عن الكثير من القواعد، ومخالفة الكثير من القوانين والأعراف، بمساعدة كم من المدلسين والمداهنين، والسماسرة الاشاوس والمنافقين وأصحاب الكذب المكشوف، لتحقيق هذا الهدف المرتجى وتغطيته وتبرير ارتكابه.
اطلقت اكبر عملية تسويق مزيفة كانت تقول، ان الجاري التفاوض عليه ليس اتفاقا او اتفاقية، وكل ذلك لكي لا تدخل باقي أجهزة الدولة بما فيها الجيش ووزارة الخارجية، على خط التفاوض وتؤخر الإنجاز قبل سقوط اخر أوراق العهد الأكثر فشلا بتاريخ لبنان.
كان الهدف، هو الإسراع في الخطوة الإعلامية الوهمية. ولهذه الأسباب ولكي لا يسرق احد البريق المتوهج للانجاز الكبير جدا والفريد من نوعه! لم يسمح لاحد من الدولة اللبنانية من الاطلاع على النص المهول.. وقد جرت اكبر المخالفات في ابعاد نص الاتفاقية عن مجلس النواب، مع انه اعيد تسجيلها في الأمم المتحدة كاتفاقية كمثل باقي الاتفاقيات، على العكس مما روج والتي كان يجب ان يقرها المجلس بعد نقاش وتدقيق نصوصها، وقبل ان يبرمها ويوقع عليها رئيس الجمهورية المصون.
بالأمس تكررت المسرحية، الهزلية، وتحولت المفاوضات والاتصالات على وقف النار مع العدو، الى مهمة شخصية وفريدة لرئيس مجلس النواب نبيه بري، ومعه حزب الله الذي سبق ان أعطاه ومنحه التفويض بالتفاوض، من دون ان يظهر ان لرئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، المسؤول الوحيد امام مجلس النواب، حسب الدستور، أي دور مركزي في التفاوض.
قبل ان تقع كارثة التفاوض الانفرادي على الاتفاق البحري النفطي المحصور، بين عين التينة وبائع مستحضرات التجميل "عامو افندي". كانت الدولة قد تعرضت للتهشيم والتعطيل المتدرج طوال السنوات الماضية، حتى اعتاد الرأي العام، والعامة قبل الخاصة، على تعطيل مجلس النواب والمؤسسات وتجاوز الدستور وتفسيره تفسيرا "خنفشاريا" يجاري مصالح قلة متحكمة، كلما قرر الحزب و"الثنائي الوطني" ان مصلحتهما تكمن في التعطيل والاقفال لمجلس النواب وكل مرة بحجة جديدة.
في المرة الأولى، حين قرر الثنائي المناضل، ان حكومة فؤاد السنيورة بتراء، تم اقفال مجلس النواب ووضع الرئيس بري مفتاح البرلمان في جيبه، حتى لو تفحمت البلاد وانهار اقتصادها ونكب وسطها التجاري.
في المرة الثانية، اقفل مجلس النواب وتعطلت اعماله لاكثر من سنتين الى ان خضع واستسلم الجميع بما فيهم القوات اللبنانية وقبل في المحصلة سعد رفيق الحريري، بانتخاب صاحب الحلم الكبير ميشال عون رئيسا للجمهورية، وهو العهد الذي ادخل لبنان الى قلب جهنم الحمراء التي نتلوى فيها من دون مخرج ، حيث عمل العماد المفدى صاحب الاحلام الكبيرة، على تدمير، وكما حلم دائما، كل ما بناه واقامه رفيق الحريري في السياسة والاقتصاد والرؤية والامال.
اما الان وفي المرة الثالثة، مجلس النواب مقفل منذ استقرار عون في كوخه المتواضع في الرابية، الى حين انتخاب سليمان فرنجية رئيسا. وقد اختُرعت كل أصناف الحجج والشروط في العالم لتعطيل انعقاد نصاب الدولة من اجل ان لا تسقط كلمة وإرادة الثنائي المدافع عن لبنان وحاميه بوجه الغطرسة الإسرائيلية والامبريالية الاستعمارية اللعينة!
حتى انه لم يظهر او يتأكد الى الان انه لدى رئيس مجلس الوزراء، نسخة عن نص اقتراح الاتفاقية التي سلمت نسخة منها الى الأخ الاكبر وحزب الله.
وقد زاد في الطين بلة، الاستهتار المخيف بكل ما حوته الدولة اللبنانية والقوانين والأعراف والدساتير، ان استكملت المفاوضات والاتصالات في السفارة الاميركية في عوكر، مع مستشار رئيس مجلس النواب الفاتح هاتفه باستمرار مع عين التينة، فيما يبقي عاموس تل ابيب على اطلاع دائم، لانجاز تفاصيل الاتفاق الخطير والمفصلي. بغياب اي موظف من وزارة الخارجية اللبنانية المعنية بالتفاوض، ومن دون تسجيل أي محضر من محاضر المباحثات الأكثر خطورة وحساسية، في تاريخ لبنان، حول اتفاق رسمي لانهاء الحرب المدمرة خلال الاتصالات والمفاوضات مع العدو.
ما هذه المهزلة المقرفة والمعيبة يا جماعة ...؟كيف يمكن ان ينعقد نصاب لبنان بعد الان، في ظل استبعاد كل مكونات البلاد ودولته وقوانينها عن المباحثات والمفاوضات الخطيرة بعد اكبر عملية تدمير وتهجير لنحو ثلث الشعب اللبناني.
حتى الوسيط العامل في صفوف جيش العدو سابقا، والذي يعتبر مواطنا غريبا، استلحق حاله وزار معراب لاطلاع قيادة القوات اللبنانية على ما يجري، وقد اكملها بمزيد من حبات المسك من دون ان يهمل زيارة الرئيس المفدى ميشال عون، في معزله في الرابية للهروب من لقاء جبران باسيل الملعون بالعقوبات، ومن دون ان يتجاهل او ينسى زعيم المختارة وليد جنبلاط في كليمنصو بحضور كافة اركان الجنبلاطية الاشتراكية.
هل سيطلع مجلس النواب على نص الاتفاق؟ لنقاشه والتصويت عليه ام سيستمر التجاهل والاستهتار؟
لقد جرى خلال السنوات الماضية وعبر تجارب ومحطات عديدة تعطيل هذه الدولة وتهشيم قوانينها ومؤسساتها ودوس هيبتها، من اجل الوصول الى الاستغناء عنها كما يحصل اليوم، على يد من يفترض انه مؤتمن على حمايتها.
فالى متى يستمر هذا الاستخفاف والاستقواء والتنمر على شعب يداس على قوانينه ودستوره وكرامته كل يوم؟.