في تقرير إخباري تلفزيوني، يدخل المراسل الإسرائيلي إلى منطقة جباليا بصحبة فرقة من الجيش. مراسل مبتهج وفائر بالحماسة، ويكاد لا تسعه الفرحة بما يرى: أرض رملية مجروفة ومثلومة بجنازير الدبابات والجرافات، غبار أصفر يغطي كل شيء. رمال كثيفة كصحراء تم صنعها للتو. وعلى جنبات هذا اليباب الأصفر وفي كل الاتجاهات، ركام ما كانته جباليا. تتفنن كاميرا المراسل في إظهار هذا الركام، الذي يبدو كأنه تعرض للقصف عشرات المرات. بل جرى تدمير الدمار نفسه مراراً وتكراراً حتى تحول إلى خرائب فقدت كل العلامات الدالة على شكلها الأصلي. أكوام رمادية كجثة اسمنتية متحللة حتى الترمد. كأن البيوت والبنايات والأرض تعرضت إلى الطحن. لم يبذل المراسل أي جهد لإخفاء سعادته، التي تحتفي بالقوة التدميرية الساحقة لجيشه. يقف إلى جانب الجنود، ناظراً إلى الخط الأسود الذي يتحرك من بعيد. طابور بشري على الامتداد العرضي للكاميرا. آلاف وآلاف يخرجون من وراء الخرائب ويمشون عبر ذاك الممر الذي حدده لهم الإسرائيليون نحو المجهول. من أين أتوا؟ كيف بقوا أحياء؟ ما الذي اختبروه في شهر الأهوال الأخير من عام الموت هذا؟ ما الذي يحملونه؟ إلى أين ذاهبون؟
يهرول المراسل جذلاً نحوهم، بل يقتحمهم بجسده وميكروفونه وكاميرته. اقتحام أو لنقل اعتداء صلف بلا أي لباقة ولا اعتبار ولا خجل. يُقحم ميكروفونه بوجوهم ليستنطق العجائز والأمهات والأطفال والجرحى المقعدين والفتيات اللواتي يحملن ما تبقى لديهن من حاجيات وأغراض. ويلحّ باستجوابهم، وهم بالكاد يحملون عظامهم المنهكة، بالكاد يلتقطون أنفاسهم بأفواه جففها العطش، بالكاد يجرون أجسادهم التي أتعبها الجوع وإرهاق هذه المسيرة اليائسة.كان يريد شيئاً واحداً من هؤلاء الذين لم يموتوا بعد، أن يتمتع كسادي لئيم بأوجاعهم، وأن يتلذذ بتصوير بؤسهم الذي يفوق الوصف. بدا لجوجاً عليهم وهو يخترق طابورهم برفقة جنوده، ليضاعف الرعب الذي خطف وجوههم، وليمعن بهذا الترعيب حتى الثمالة.
راح يسألهم عن رأيهم بـ"حماس"، وهو يعرف أنه يطلب منهم أمام كاميرا إسرائيلية، وهم المحاطون ببنادق الجنود، أن ينطقوا بالجواب "المناسب"، الجواب الذي قد يساعدهم على التخلص من هذا التعذيب التلفزيوني. مع ذلك، لم يشف غليله، فيرد عليهم دوماً بلغة التشفي: "كنتم فرحين يوم 7 أكتوبر. أليس كذلك؟". كأنه أتى لا لإنجاز تقرير صحافي، بل للثأر والانتقام، ليساهم في هذه الحرب السادية. وكان بكامل قوته الباطشة يُخضع الفتيات والأمهات والعجائز والأولاد لمحاكمة ميدانية، بلا أي شفقة.بدا ميكروفه كامتداد طبيعي للدبابة، للبندقية، للقنابل التي هطلت بمئات الأطنان على رؤوسهم. فيما هو ظهر كجندي مهووس بحربه، يبحث بجنون عن انتصار ينتزعه ولو من امرأة ثمانينية جائعة ومريضة تجرّ أحفادها خلفها.
هذا المراسل لم يمثّل حتى ذاك الدور الذي يلعبه إعلاميون تلفزيونيون نرجسيون، فيصورون أنفسهم مثلاً في ساحات الحرب يمنحون طفلاً زجاجة ماء ليظهروا كأبطال "إنسانيين" بما يعزز نجوميتهم. هذا المراسل الإسرائيلي لم يمثّل هكذا دور ميلودرامي، قد يستجلب سخط إسرائيليين أمثاله متحمسون لإبادة الفلسطينيين. لذا، لم تبدر عنه أي حركة أو إشارة تعاطف أو تأثر بما أصاب هؤلاء. كان حقده يجعله شامتاً بلا أي تمويه، مثالياً في "تمثيل" ذاته.
كان المشهد كله في عز النهار. مع ذلك، كأننا نحدق في قلب الظلام. صرخات الناس والابتسامات الاستهزائية للجنود، والاستعراض الشيطاني للمراسل، وسط هذا الرمل والغبار والأكوام الرمادية. مشهد صُنع باتقان بوصفه الاقتراح الحقيقي والنهائي الذي يُقدَّم للفلسطينيين.