يبدو من جولة هوكشتاين الأخيرة في بيروت أن ثمة بداية نزول عن الشجرة من قبل الإسرائيلي، واتجاه ملحوظ بتخفيض السقوف التي لطالما حرص نتنياهو على العبث بها ورفعها دون ضوابط أو حدود، حتى وصلت سقوفه إلى زعمه بتغيير وجه الشرق الأوسط كله.
وكما أن إسرائيل عوّدتنا بأنها لا تقيم أي وزن للمواثيق والمعاهدات الدولية ولا للقانون الدولي الإنساني، نراها في الوقت عينه تعبث بمفهوم التفاوض المرتبط بعلم السياسة الحديث، حيث إنها تناقض بسلوكها عناصر تكوين علم التفاوض، من امتلاك “الإرادة التفاوضية” والإيمان بالتفاوض كسبيل لحل النزاعات، كما “مبدأ المرونة” والقدرة على التضحية في سبيل كسب الحلول.
كل هذا التفلت من الضوابط نضيف عليه في الوقائع، أن إسرائيل رفضت في الجولات السابقة مع لبنان القبول بوقف إطلاق النار ومن بعده استئناف التفاوض بشأن اتفاق سياسي، وأصرت وقتها على أن تبقي التفاوض تحت النار، بمحاولة منها لحرف المسار التفاوضي ونتائجه خلف تأثير مشهد قوة النار والدمار، باعتقاد منها أن كثرة الدمار والقتل سوف تحبط جبهة المفاوض اللبناني وتدفعه للقبول بأي شروط تُملَى عليه.
لكن كما يبدو أن السحر إنقلب على الساحر، وباتت آلام الميدان واختيار إسرائيل التفاوض تحت النار لعنةً قاسية، لو أدرك نتنياهو خطورتها من قبل لدرس خياراته بعناية أكثر.
وفي هذا السياق المرتبط بعلم وفن التفاوض، فمن المعلوم أن صاحب الأوراق الرابحة، ومن يتحلى بالدم البارد، والقادر على ترجمة إرادة من يمثلهم، وبإمكانه أن يعكس نتائج أفعاله على طاولة التفاوض، ويمتلك مساحة واسعة في المناورة ولديه نسق واضح في مسار التفاوض سوف يكون هو الكاسب بدون شك.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه باتت هناك في المعركة الدائرة مع لبنان مفارقة تقول بانه ليس بالضرورة على لبنان أن يتعادل مع إسرائيل بالقدرة على التدمير والنار لكي يصون حقوقه ويفرضها كخيارات في السياسة، بل يكفي جبهة لبنان القدرة على الصمود والاستعداد لتحمل المزيد من التبعات، بدون سماع أصوات نشاز وازنة في الجبهة الداخلية تُكبّل خيارات التصدي، فهذا وحده سوف يكون كفيلاً بأن يحقق للبنان الوظيفة السياسية من الصمود أمام همجية الانتقام والتدمير.
أما بالمقابل، وقياساً بالتفوق النوعي والكمي، فإن المطلوب من إسرائيل لكي تُنجز الوظيفة السياسية من الحرب هو أن تحقق أهداف الحرب المعلنة أو بعضاً منها، وآخرها العملية البرية التي شكّلت عقدة للجيش الصهيوني. وأي وقف لإطلاق النار دون مكسب ذي ثقل يستطيع أن يطغى على مشهد المواجهات، فهو سيكون بمثابة تقهقر وانصياع لإسرائيل، وتدحرج ملحوظ وواضح بسقوف المطالب والشروط والأهداف.
وبناء على ما تقدم، وحسب فهمنا لدور أميركا في المنطقة ودعمها غير المشروط لإسرائيل وتكفلها بحماية أمنها، فإن مجيء مبعوثها إلى لبنان يكون في حالتين: إما أن الكيان قد حقق إنجازات كبيرة، ويأتي الأميركي مسرعاً لفرض شروطه وترجمة تلك الإنجازات مكاسب في السياسة وفرض الخيارات والمعادلات، أو أنه يأتي حين يشعر بأن حليفه الإسرائيلي في مأزق ويهرول مسرعاً ليجد له المخارج والحلول التي تحفظ له ماء الوجه.
فإذا الأميركي يأتي إما للتتويج وإما لاحتواء الخسارة.
فمن الواضح أن هوكشتاين جاء ليلملم إخفاقات الميدان، في وقت ما زالت الصواريخ تنزل على مستعمرات الكيان وتل أبيب كل يوم، مع تصعيد ملحوظ في الكم والكيف والنوع من قبل لبنان، بالإضافة إلى جو عام يعكسه لبنان الرسمي بأن لبنان قد دفع فاتورة صموده، وأن أقصى ما يمكن أن يدفع قد دفع.
فبالتالي، إنّ ما تبقى من حرب استنزاف أصبح ضمن طاقة تحمّل لبنان، وما لم يعطه في ذروة التضحيات لن يعطيه بعد أن دفعت الفاتورة بالدم والدمار، ثم إن هوكشتاين يفترض أنه لمس بأن وضع الجبهة الداخلية اللبنانية ما زال سليماً، وليس هناك مؤشرات وازنة توحي بتفكك الجبهة الداخلية، وليس في الأفق ما يراهن عليه بخلق جوقة ضغط حقيقية على المقاومة لتقديم المزيد من التنازلات.
فعلى ضوء هذا المشهد، ليس على هوكشتاين إلا أن يبني لنتنياهو نصراً كرتونياً يقدمه لشارعه المستاء من جدوى تلك الحرب، الضاغط عليه باستطلاعات الرأي التي تتزايد كل يوم من خلال التساؤل عن جدوى تلك الحرب وضبابية إستراتيجية الخروج منها، بالإضافة إلى جيش منهك يعمل تحت غطاء التفوق الجوي، وعجز صارخ في الميدان والقدرة على الثبات والتقدم، بعد شهر ونصف من محاولات التوغل العاجزة التي تبين أن أغلبها كانت أفخاخ ومقاصل تُدفع فيها الكثير من الأثمان.
مما لا شك فيه أن نتنياهو بات يريد إيقاف الحرب، لكنه يستجدي خشبة الخلاص أمام الداخل. جلّ ما يريده اليوم هو 1701 مع قسم اليمين اللبناني بأنه مستعد للتطبيق دون مواربة، وقسم يمين من قبل المقاومة بأنها لن تتسلح مجدداً، مع لجنة مراقبة أو يمكن تقليصها للجنة إشراف أميركية – فرنسية تُفرغ من مضمونها التنفيذي وتكتفي بصيغتها الشكلية، مع بند فضفاض يريده نتنياهو ليوحي بأن هناك ضمانات لوقف تدفق السلاح عبر الحدود.
وبهذا، يكون نتنياهو قد أصبح في جعبته العديد من الانتصارات الكرتونية يستطيع أن يلملم ماء وجهه، ويعرضها أمام داخله كـ”انتصارات وضمان لأمنهم في المستقبل”. وحين يخلد إلى النوم، سوف يلعن شعب لبنان وفلسطين ويتمنى لهم الموت جميعاً.
موقع سفير الشمال الإلكتروني