تستعر الجبهة مع لبنان، ويتمادى الإسرائيليون في استهداف البشر والحجر وصولًا إلى الأحياء المكتظة في العاصمة بيروت، حيث اتضح في الضربة الأخيرة على زقاق البلاط، أنّ المستهدف هو بيئة حزب الله من جهة، والبيئة المضيفة من أجل القتل والتخويف وبث الرعب في النفوس وزرع الشقاق بين الشيعة والبيئات المضيفة بكل تلاوينها، من جهة ثانية.
وفي الوقت عينه، تستعر جبهة داخلية ظاهرة أحيانًا ومستترة أغلب الأحيان تنادي بعزل المكون الشيعي عن القرار السياسي عبر المناداة بتغييبه عن الاستحقاق الرئاسي، أو عبر رفض هذا المكون كونه مرتبطًا عقائديًا وإيدلوجيًا بإيران، في محاولة لإسقاط كلّ بعد وطني عنه وعن مقاومته لاحتلال إسرائيلي ارتكب الفظائع والمجازر بأهل الجنوب، والشيعة تحديدًا.شعور بالخوف والعزلةومقابل تلك الأصوات، يتعزز الشعور بالخوف والعزلة والرفض لدى هذا المكون الذي يعيش فقدان أحد أبرز قياداته التاريخية إن لم يكن أبرزها، السيد حسن نصر الله، ويختبر تهجيرًا بأعداد تصل إلى مئات الألوف، وسقوط شهداء وجرحى بالألوف أيضًا، وتدمير بيوت وحرق زرعهم ومحاصيل وقطع أرزاق.
أمام هذا الواقع، يتشدّد الشيعة عمومًا، بتمسّكهم ليس فقط بالسلاح والمقاومة، بل بحزب الله كعقيدة، وخيمة، وحماية وملجأ. يتلفتون ذات اليمين وذات الشمال ويجدون التخلّي يحيط بهم حتى من الذين بنوا أمجادهم على دعم الثنائي الشيعي بشكل أساسي، ويتذكّرون التخلّي عن السوريين الذي حصل في مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري حين أزفت ساعة تنفيذ القرار الدولي بالانسحاب. إلاّ أنّ الفرق صارخ هنا، فالسوري سوري، أمّا هم فلبنانيون وأهل الأرض وسكانها وملحها.
لا يختلف لبنانيان على أنّ المرحلة المقبلة مختلفة بالشكل والمضمون عن كل المراحل السابقة منذ عناقيد الغضب ١٩٩٦وتفاهم نيسان، مرورًا بالانسحاب الإسرائيلي عام ٢٠٠٠ وخط تيري رود لارسن الأزرق، وصدور القرار ١٥٥٩ واغتيال الحريري ورفاقه، وحرب تموز ٢٠٠٦ وصدور القرار ١٧٠١، وصولًا إلى غزوة ٧ أيار ٢٠٠٨ واتفاق الدوحة والتسويات التي دائماً ما كانت تصب في مصلحة الثنائي الشيعي الأقوى، وأخيراً حرب تشرين الأول الإسرائيلية على غزة، وعلى حزب الله ولبنان عمليًا منذ أيلول ٢٠٢٤.مرحلة تبدلات واصفافاتولا يختلف قارئان على أنّ المرحلة المقبلة ستشهد تبدلات إقليمية واصطفافات دولية مختلفة ستترك بلا شك آثارًا على لبنان ومحيطه الأقرب، أي سوريا وفلسطين، وعلى محيطه الأبعد أي الخليج ومصر وتركيا وإيران.
يتعاطى الإقليم مع نفوذ إيران بالخوف والريبة، كيف لا وهي ساندت كلّ حركات المعارضة العنفية من اليمن إلى الإمارات والبحرين والسعودية والعراق وصولًا إلى خلق محور الممانعة ووحدة الساحات وإحكام السيطرة على عواصم عربية أربعة، مستندة بشكل أساسي على طائفة بعينها. وفي مرحلة صعود النفوذ الإيراني في المنطقة، شكّل حزب الله العامود الفقري لهذا المحور ولتلك الساحات، ما ساهم في تعزيز سيطرة طهران، بل أدى إلى اختلال إقليمي لصالحها في ظل الانسحاب الخليجي المتعمّد.
وهنا، لن يختلف قارئان أيضًا على أنّ اللاعبين الاقليمين يرغبون بتقليم أظافر إيران المترامية النفوذ، لكنهم يخشون بلا شك إطلاق يد إسرائيل التي أعلن رئيس وزرائها المجرم بنيامين نتنياهو عمله على تغيير خارطة الشرق الأوسط. ولا يقصد نتنياهو لبنان وفلسطين والعراق وسوريا واليمن فحسب، بل ينوي أن يصل إلى تركيا ومصر والأردن والخليج العربي برمته. وهنا، يصبح انتصار نتنياهو خطرًا على الإقليم، وهزيمة إيران المعزولة دوليًا إشارة دخول إلى العصر الإسرائيلي وتحوّل إسرائيل ليس إلى شرطي المنطقة، بل إلى بلطجي المنطقة بما لها من إمكانات وما يتوفر لها من دعم أميركي دولي غير محدود. في هذا السياق، يطرح السؤال التالي نفسه: هل المطلوب تحقيق هزيمة مطلقة لإيران ونصر مؤزر لنتنياهو؟الاستقرار في محيط مستقرالدول مصالح متداخلة أحيانًا ومتضاربة أكثر الأحيان، والإدارات تتبدل بتبدل التموضعات والأدوار تصعد وتخفت بحسب المتغيرات. وبالعودة إلى لبنان، لا يمكن له أن يشهد استقرارًا إلا في محيط مستقر ولا يمكن له أن ينسلخ من محيطه، والتجارب الحديثة منذ ٢٠١٠ إلى اليوم تثبت أنّ انهيار البلد على الصعد كافة جاء نتيجة انسلاخ لبنان عن محيطه العربي تحديدًا.
تميّزت حرب تموز ٢٠٠٦ بوجود حلفاء عرب للبنان فقدهم في حرب ٢٠٢٤، وتميزت بأخذ على عاتقهم، إلى جانب إيران بالتأكيد، إعادة الإعمار وضخ الدم في شرايين الاقتصاد اللبناني. ومحاولة عزل مكون وطني مؤسس تعيد صناعة أزمة مشابهة للأزمة التي نشأت نتيجة إبعاد العرب ومن يعارض النفوذ الإيراني عام ٢٠١٠، مع فارق تبدّل الأدوار. وعليه، يجدر باللبنانيين الحرص على وحدة نسيجهم الوطني وعدم اعتماد تجارب خبروها بالعزل والرفض وأدّت إلى حروب ودماء ودمار.