في كتاب "في عرض الطريق: دراسات عن الحركة والتنقل في القاهرة"، المعني بدراسة طفرة البنية التحتية في مصر، والصادر هذا العام عن دار المرايا، تختتم آلاء عطية فصلها المعنون "ما وراء الكارثة" بسؤال مفتوح: لماذا كل هذا الطرق بينما نحن بالكاد نستطيع البقاء على قيد الحياة؟حادث الأسبوع الماضي، على الطريق السريع الرابط بين مدينة المطرية ومدينة بورسعيد، يعيد صياغة السؤال، بعد أن أدى إلى مصرع 13 شخصاً وإصابة 22 آخرين، معظمهم من عمال أحد مصانع الملابس في المنطقة الاستثمارية ببورسعيد. مهن الضحايا تشير إلى طبيعة الطريق محل الحادثة، وهو محور انتقال العمالة الرخيصة من المنطقة شبه الريفية في محافظة الدقهلية، ذهاباً وإياباً، إلى المناطق الاستثمارية على خط مدن القناة، حيث يتمتع رأس المال بامتيازات وتسهيلات حكومية، تحت شعار سياسات تشجيع وجذب الاستثمار. قادت الحادثة المفجعة إلى اندلاع احتجاجات، وهو الأمر الذي أصبح نادر الحدوث في مصر، خوفاً من البطش الأمني. بعد تجمع عدد من ذوي الضحايا، تجمهر مئات من الأهالي تضامناً معهم وقطعوا الطريق الذي شهد الحادثة، وهو المعروف بـ"طريق الموت" بسبب تكرار الحوادث عليه، مطالبين بإنارته وإصلاحه ومنع شاحنات النقل الثقيل من المرور عليه. وبالرغم من تدخل مسؤولي المحافظة لتهدئة الأهالي، إلا أن الاحتجاجات سرعان ما قوبلت بعنف شديد من قبل قوات الأمن، التي استخدمت الرصاص والقنابل المسيلة للدموع لتفريق المحتجين، ولاحقاً قامت بإلقاء القبض على العشرات من بيوتهم، بتهم تراوحت بين التجمهر وارتكاب أعمال الشغب وقطع الطريق.صعود دولة البنية التحتية في مصر، المتباهية بمشاريعها الكبرى وعلى رأسها عاصمتها الجديدة، والسخية حين يتعلق الأمر بتمويل اقتصاد المظاهر الرسمي، لا يتعارض أبداً مع ارتفاع معدلات سقوط الضحايا على خرائط طرق الموت بطول البلاد وعرضها، بل ولعله يتناسب معه طردياً. منذ العام 2019 وحتى العام الماضي، ومع وصول وتيرة شق الطرق والجسور إلى ذروتها، سقط 33.851 قتيل في حوادث الطرق في مصر، وسجل العام 2022، أعلى مستوى للوفيات، بعدد بلغ 7768 وفاة. أما من حيث الإصابات، فشهدت الطرق المصرية في الفترة نفسها، 315 ألف إصابة، وسجل العام الماضي أعلى مستوى، بعدد 71 ألف إصابة. تلك الأرقام الأقرب إلى معدلات ضحايا الحروب، قد لا تكون دقيقة بالضرورة، وعلى الأغلب تتجاوز أعداد الضحايا الحقيقية الإحصاءات الرسمية.ثمة الكثير من الانتقادات الهندسية تطول حمى مشاريع البنية التحتية في مصر وتفاصيلها الفنية، إلا المعضلة لا تتعلق بالتقنيات وحدها، بل بمنطق استثمارات الدولة. فشبكة الطرق كما إنها تكنولوجيا مثبتة في الأرض وفي قلب الحياة اليومية، فهي أيضاً آليات استثمارية وكيانات اقتصادية، تتحكم فيها السياسة وتصورات محددة عن طرق العيش والانتقال والحركة وتراتبية العديد من الأولويات. الاختلال في توزيع الموارد والاستثمارات يبدو جلياً بين منطقة وأخرى، حيث تعزز التفاوتات في مشاريع البنية التحتية الفوارق الاقتصادية والاجتماعية القائمة بالفعل. إذ تنفق الدولة موازنات هائلة تقدر بمليارات الدولارات، وممولة بالقروض، على تجمعات عمرانية جديدة فاخرة ومعزولة في الصحراء، تستخدم كأوعية للقيمة لأصحاب الفوائض المالية، بينما تبقى خريطة مكتظة بطرق الموت على حالها، مفتقدة للإنارة وأعمال الصيانة الدورية وتجهيزات أساسية لتأمينها، تضمن الحد الأدنى من معاملات السلامة أثناء الحركة عليها.بحسب منطق الاقتصاد السياسي للدولة المصرية اليوم، لا يعد الفضاء العمراني، مكاناً مأهولاً بقدر ما هو سطح تتقاطع عليه وتخترقه مسارات حركة لتدوير المواد الخام، البضائع والأيدي العاملة، بغرض تحقيق أعلى قدر من ربحية رأس المال وتراكمه. العامل الأهم هو سرعة الدورة الرأسمالية، أما الضحايا من الأيدي العاملة الفائضة عن الحاجة فيتم حسابهم في خانة خسائر التشغيل الهامشية.