لا يُخفي كثيرون في الأيّام الأخيرة، من سياسيين ومراقبين ومواطنين، قلقهم البالغ من الإنفلات الكبير الحاصل في المواقف والآراء من قبل أشخاص وأطراف مختلفة حيال ما يشهده لبنان من عدوان إسرائيلي عليه بشكل متواصل منذ أكثر من 400 يوم، وما كشفته هذه المواقف والآراء والتعليقات من إنقسام خطير وصفه البعض بأنّه “أخطر” من الحرب نفسها.
ومع أنّ الإنقسام الداخلي في لبنان ليس جديداً، وهو يظهر على السّطح في أيّ لحظة، أو عند بروز أيّ مشكلة حتى لو كانت هامشية، إلّا أنّ الإنقسام الحالي أعاد إلى الأذهان الإنقسام الذي شهدته البلاد، وعلى نحو أكثر خطورة، عند الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وحين العدوان الإسرائيلي عليه في تمّوز من العام 2006.
لكن ما أسهم في حدّة الإنقسام الداخلي وعمقه وخطورته في آن معاً، جملة أسباب من أبرزها أنّ محطات التلفزيون المحلية والفضائيات العربية والفضائيات الدولية الناطقة بالعربية قد فتحت أبوابها أمام كلّ من هبّ ودبّ من السّياسيين والمعلّقين وأصحاب الرأي، وحتّى النّاشطين، من أجل ملء الهواء الذي اضطرها للبثّ على مدار السّاعة لتنقل أخبار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة ولبنان، حيث قام قسم لا يستهان به من هؤلاء الذين حضروا على الشاشات ببث آرائهم التي غلب عليها طابع العصبيات السّياسية والطائفية والمذهبية، والتحريض على أنواعه، ما كشف أنّ التباين في الرأي لم يكن مجرد اختلاف طبيعي لا يُفسدُ للودّ قضية، بل اتضح أنه خلاف جذري، وصل الأمر إلى حدّ وصفه البعض بأنّه خلاف مصيري ووجودي.
وفاقم من خطورة الأمر أنّ فترة العدوان طالت أكثر من 400 يوم، وهي مرشّحة لأن تستمر بلا أيّ أمل بإيقافه قريباً، عكس عدوان تمّوز 2006 الذي امتد 33 يوماً فقط، عدا عن أنّ منصّات وسائل التواصل الإجتماعي قد تحوّلت إلى ساحة واسعة لتجاذب وتقاذف الإتهامات على اختلافها، بلا أي ضابط أو رادع.
فالمعارضون لحزب الله ممّن تحوّلت عندهم هذه المعارضة إلى عدواة وحقد وكراهية، لحسابات وارتباطات سياسية داخلية وخارجية، لم يتورّع قسم كبير منهم عن دعوة العدو الإسرائيلي إلى القضاء عليه، وإلى اتهامه بأنّه هو من اعتدى على إسرائيل وليس العكس، وإلى التحريض عليه، متناسين قاعدة الحزب وبيئته الواسعة في لبنان سياسياً وشعبياً وبأنّهم يعادون هذه القاعدة والبيئة من حيث يدرون ولا يدرون.
هذه المواقف المعارضة والتحريضية تجاه حزب الله أثارت بلا شكّ حفيظة ونقمة بيئته وجمهوره، لكن إنشغالهم بتداعيات العدوان، وما يشهده الميدان من تطوّرات، يجعلهم لا يتوقّفون كثيراً عند ما يُقال، مؤجّلين أن يقولوا كلمتهم إلى حين توقف العدوان.
لكنّ اليوم التالي الذي سيعقب وقف الحرب هو الذي يُشغل بال كثيرين، ويطرحون على أنفسهم وعلى الآخرين تساؤلات حول كيف سيتعاطى معارضو حزب الله والمحرضين عليه مع الحزب وحلفائه وجمهوره، وأيّ مستقبل للتعايش في بلد كان التعايش فيه هشّاً جدّاً، وهو اليوم في أوهن حالاته، في ظلّ غياب لافت وغير مبرر لأصوات العقل والتضامن الوطني والإنساني والوحدة الوطنية، إلا بشكل نادر، في مرحلة تعدّ الأخطر التي يعاني منها لبنان..