خلّف العدوان الإسرائيلي المستمر على المجتمعات السكانية في لبنان، إرباكاً لدى السلطة السياسية تجاه مقاربة ملف النزوح السوري على أراضيها بما ينسجم مع التعاميم والقرارات الحكومية والنيابية التي أصرت قبل أشهر على تأمين إعادتهم الطوعية والآمنة الى بلادهم. فالظروف الإنسانية للنزوح الداخلي، لا تميز بين لبناني وسوري بالنسبة للهيئات والمنظمات الدولية، إلا أن المقترحات المقدمة بتوسعة بعض المخيمات لاستيعاب أعداد إضافية من النازحين السوريين أو استحداث أخرى في مناطق مصنفة خضراء، تواجه بممانعة من السلطات المحلية، ولا سيما المحافظين، البلديات والمجتمع العام. بالإضافة إلى رفض بعض اللاجئين أنفسهم مغادرة أماكن تواجدهم إما لعدم رغبتهم بالابتعاد عن أماكن أعمالهم، أو لاقتناعهم بأن تواجدهم في العاصمة بيروت يجعلهم أقرب الى المساعدات الإنسانية التي تقدمها الهيئات الإغاثية، علماً أن بعضهم لم يقم سابقاً في مخيمات.
نقل نازحين إلى مراكز إيواء
قفزت هذه المعضلة إلى الواجهة، إثر ما تسرب عن لقاء عقده وزير الداخلية بسام المولوي، مع ممثلين عن مفوضية اللاجئين ومحافظ البقاع كمال أبو جودة، درس طلب نقل عدد من النازحين الذين تشردوا من المناطق المصنفة حمراء الى قرى البقاع الآمنة، وتحديداً في مدينة زحلة وبلدة سعدنايل. وذلك بالتزامن مع بدء إعداد العدة لنقل نازحين لبنانيين الى مراكز إيواء مجهزة في مدينة كميل شمعون الرياضية.ترجمت محاولة وزارة الداخلية، الإحراج الذي تقع فيه الدولة اللبنانية تجاه المنظمات الداعمة التي تحولت شريكة أساسية في تغطية نفقات خطتها للطوارئ والإغاثة، فخسرت سلطاتها رفاهيتها في سحب يدها من تأمين مراكز إيواء ملائمة للنازحين السوريين أسوة باللبنانيين. إلا أن اجتماع وزارة الداخلية ظهّر عدم قدرتها على فرض رغباتها على المجتمعات المحلية التي طلبت منها توسيع بعض المخيمات الموجودة فيها لاستقبال أعداد أكبر من النازحين. وبحسب المعلومات التي رشحت عن الاجتماع فإن المحافظ أبو جودة تمسك بالتعاميم الصادرة عن الحكومة بمنع إقامة مخيمات جديدة في المنطقة، رابطاً موقفه بعدم صدور أي تعميم مخالف للتعميم السابق وبالممانعة التي لمسها لدى البلديات ونواب زحلة وفعالياتها السياسية والدينية على تنوع انتماءتها.رفض توسيع المخيماتانفجرت هذه الممانعة في بيانات متتالية صدرت عن نائبي زحلة جورج عقيص والياس اسطفان، الى بيان مشترك لعقيص مع مطرانية زحلة الكاثوليكية. وتزامنت مع مبادرة بلدية زحلة لهدم سبع خيم لم تسمح بإضافتها الى تجمع للنازحين في منطقتي حوش الامراء والمعلقة. كما صدر بيان عن بلدية سعدنايل أعلن رفض زيادة أي خيمة جديدة في البلدة، إنسجاماً مع الممانعة التي أظهرها أيضاً منسق تيار المستقبل في البقاع سعيد ياسين.وقد حملت بعض هذه البيانات على مفوضية اللاجئين، التي استغرب عقيص أداءها "غير المشجع على إنتقال اللاجئين السوريين الى بلدهم الآمن، وحيرتها في إيجاد أماكن نزوح بديلة لهم داخل الأراضي اللبنانية بينما بلادهم اليوم باتت أكثر أمانا من بلدنا".إلا أن مصادر مفوضية اللاجئين رفضت تحميلها مسؤولية هذا القرار، وأكدت أن الموضوع عرض من قبل وزارة الداخلية، من دون أن تفصح عن معطيات كافية حول ما آلت إليه تلك المحاولات. علماً أن مصادر متقاطعة ذكرت أن الحلول لمشكلة النزوح السوري الداخلي جاءت "على القطعة" في بدايات مراحل العدوان الإسرائيلي، حيث تغلغل بعضهم في مراكز الإيواء من بين أرتال اللبنانيين الذين نزحوا اليها، وأقام البعض الآخر في خيم مشتركة مع أقرباء لهم.أما محاولات توسعة بعض المخيمات فقد خضعت لعوامل رفض أو قبول فردية، وقد جوبهت في معظم االأحيان برفض أصحاب الأراضي التي تقوم عليها تجمعات النازحين الحالية، أو من الشاويش، أو من السلطات المحلية، أو حتى البيئة المحيطة بتجمعاتها، أو منها جميعها.النازحون إلى سورياولم تتدخل المفوضية، كما تؤكد مصادرها، في أي من المحاولات التي جرت، علماً أن مصدر رسمي في البقاع أشار الى إستحداث خمسة مراكز إيواء خارج تجمعات الخيم في المحافظة، أقيمت بدعم مباشر من قبل المفوضية التي كانت تخصص هذه المراكز لخدمات إجتماعية وتربوية، ولكنها لم تستوعب أكثر من ألف لاجئ سوري.في المقابل لم تأت أعداد اللاجئين السوريين الذين عبروا الحدود اللبنانية الى سوريا منذ العدوان الإسرائيلي على لبنان وتوسعه الى مختلف المناطق اللبنانية، موازية لحجم المخاطر الأمنية المترتبة عن هذا العدوان، أو حتى لحجم النزوح من القرى الواقعة تحت هذا الخطر. وبحسب تقديرات رسمية فإن مجمل أعداد من عبروا الحدود البرية الشرعية الى سوريا حتى الآن وصل الى نحو 510 الاف مواطن، 71 بالمئة منهم سوريون والباقي لبنانيون. هذا في وقت كشفت مصادر مفوضية اللاجئين لـ"المدن" أن أعداد المسجلين لديها الذين غادروا لبنان بلغ نحو55 ألفاً. علماً أن نحو 340 ألف لاجئ سوري يقيمون في المناطق الأكثر تضرراً، اضطر 90 ألفاً منهم مغادرة أماكن تواجدهم منذ تشرين الأول من العام 2023، بينهم 73 الفاً نزحوا فقط مع توسع العدوان الى بيروت والبقاع في أيلول عام 2024.المفوضية والقانون الدوليوبحسب بيان توضيحي صدر عن المفوضية فإنها تلتزم بقرارات وزارة الداخلية والبلديات الرامية إلى إيجاد حلول للنازحين الأكثر ضعفاً، لبنانيين ولاجئين الذين يبحثون عن مأوى آمن ومؤقت. ولفتت المفوضية الى "أن أي عمل ينفذ يكون بالتنسيق مع الوزارات المعنية، مع اتباع توجيهات الحكومة، بما في ذلك اللجنة الوطنية لإدارة ومواجهة الأزمات والكوارث ووزارة الداخلية المسؤولة عن التنسيق مع السلطات المحلية على مستوى المحافظات والبلديات. وهي بالتالي تبذل بالتعاون مع الشركاء في مجال العمل الإنساني والسلطات اللبنانية، كل جهد ممكن لتأمين مأوى آمن لكل من النازحين اللبنانيين واللاجئين".أما فيما يتعلق بأسباب عدم بذل المفوضية لهذه الجهود لإعادة السوريين الى بلادهم، خصوصاً أنها أصبحت أكثر أمناً من المناطق التي كانوا يقيمون فيها كلاجئين، فلفتت المفوضية الى أن موقفها في هذا الملف مرتبط بمبادئ القانون الدولي لحماية اللاجئين، والذي يشترط لأي عودة أن تكون طوعية وآمنة. وانطلاقا من هنا لا تنظر المفوضية الى العودة التي حصلت لبعض اللاجئين الى سوريا بكونها عودة طوعية، وإنما هي عودة تحت ظروف قسرية فرضتها الحرب.في المقابل ليس لدى المفوضية كما تؤكد مصادرها، معطيات واضحة لإصرار العدد الأكبر من اللاجئين على البقاء في لبنان على الرغم من ظروف العدوان، مشددة على أن عمليات الرصد الدورية التي تجريها لإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENA أظهرت أن نية العودة موجودة ولكن السؤال المطروح لديهم حتى الآن هو متى؟ وتؤكد مصادر المفوضية "أن مسؤوليتها هي في تسهيل وصول المعلومات التي تبنى عليها قرارات العودة ومن عدمها".
مصادر رسمية تنتقد مقاربة المفوضية، تعتبر أن العودة المطلوبة للاجئين السوريين الى بلادهم تعرقلها الحوافز المالية والمساعدات التي توفرها المفوضية بسهولة في لبنان، بينما تبقى تدخلاتها في سوريا ضبابية غير واضحة، بظل الحصار الاقتصادي المستمر عليها. هذا في وقت يعتبر جزء من اللبنانيين أن ملف السوريين المقيمين في لبنان بات يوازي بمخاطره العدوان الإسرائيلي على لبنان، ويعربون عن تخوفهم من أن يكون الجزء الكبير من مجتمعات اللاجئين قد "تبلد" في لبنان الى حد اعتباره وطناً بديلاً وليس مقر إقامة مؤقت.