لا يوحي السلوك الإسرائيلي بوجود نيّة جدية لوقف إطلاق النار، لا في لبنان ولا في قطاع غزّة. ما كان لافتاً للإنتباه هو تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفضه شروط حركة حماس ومطالبها للوصول إلى اتفاق يرتكز على مطالبة جيش الاحتلال بالانسحاب من القطاع. لكن نتنياهو كان له كلام آخر يصرّ فيه على البقاء في غزة وفي محور صلاح الدين (فيلاديلفي) وفي محاور أخرى بالإضافة إلى التمسك بالسيطرة الأمنية على القطاع. في التصريح نفسه، تجاهل نتنياهو الإتيان على ذكر أي تفصيل يتعلق بالمفاوضات مع لبنان. التجاهل بحدّ ذاته إشارة لا بد من التوقف عندها، وهي أن إسرائيل غير جدية بالوصول إلى اتفاق أو تسوية في لبنان بل تسعى إلى فرض شروطها بعامل القوة. استهداف معنويات اللبنانيين
يحاول الإسرائيليون فرض الاتفاق الذي يرونه مناسباً من خلال تكثيف وتصعيد العمليات العسكرية، ومحاولة تعميق الدخول البرّي خصوصاً مع فتحهم لمعركة شمع وحتى ما بعدها، من دون إغفال أن القوات الإسرائيلية تقدّمت باتجاه شمع من دون القتال في مناطق أو محاور سابقة لها أو أقل منها عمقاً، خصوصاً في وادي زبقين ووادي حامول. وهذه مناطق تعتبر استراتيجية بالنسبة إلى حزب الله، ولا يزال الحزب لديه فيها حضور قوي. لذلك فإن الغاية الإسرائيلية من هذا الدخول العميق والسريع تهدف إلى تحقيق انهيار في معنويات اللبنانيين وتقديم صورة استعراضية حول الوصول إلى هذا العمق بهذه السرعة، وربما السيطرة على منطقة واسعة وعزلها عن المناطق الأخرى. قدرات الحزب
في المقابل، حزب الله يحتفظ بتكتيكات عسكرية، وفق ما تقول مصادر متابعة، تتيح له تنفيذ عمليات ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة باتجاه هذا العمق، وتضيف المصادر أن هناك طرقاً إلزامية بالمعنى العسكري ستكون إسرائيل مضطرة للمرور عبرها وسلوكها وهو ما يجعل الحزب قادراً على توجيه ضربات أكبر أو نصب كمائن، وإيقاع خسائر في صفوف الإسرائيليين لتعديل موازين القوى. وإلى جانب العملية البرية المستمرة، فإن تل أبيب توسع وتكثف من ضرباتها الجوية، علماً أنها اختارت تخفيض العمليات بالتزامن مع التسريبات حول زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين. جاء التخفيض بعد تنفيذ عمليتي اغتيال في قلب بيروت، وبعد تكثيف الغارات على الضاحية الجنوبية. وهذا تكتيك تريد إسرائيل اعتماده كي لا يتم تحميلها مسؤولية رفض الاتفاق وعرقلته بالتصعيد العسكري.
الجانب الخبيث في الآلية الإسرائيلية المعتمدة عسكرياً وتفاوضياً، يتصل بمحاولة جعل لبنان هو الذي يرفض الاتفاق. لذلك تسارعت وسائل إعلام إسرائيلية إلى تسريب معلومات عن مسؤولين بأن الاتفاق أصبح قريباً، وأن إسرائيل ستبقى مصرة على التمتع بحرية الحركة العسكرية والأمنية في لبنان. وذلك للتشويش على أي اتفاق أميركي لبناني. لذلك يظهر وكأن هناك اتفاقين. الأول أميركي إسرائيلي تصرّ إسرائيل عليه وعلى تسريبه والحديث عنه. والثاني أميركي لبناني لا يلحظ أي حرية حركة لإسرائيل في لبنان لاحقاً. حتى من هم في المعارضة الإسرائيلية كبني غانتس، خرج ليعلن أن إسرائيل ستبقى ملتزمة بحقها في التدخل عسكرياً وأمنياً عندما تقتضي مصلحتها. زيارة هوكشتاين
على وقع هذه المواقف، بقي لبنان مصراً على الجو الإيجابي لديه لمناقشة الاتفاق المقترح أميركياً. في السياق، تعايش لبنان مع ساعات من "التضارب" حول زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين. وهو الذي كان متحمساً لإجراء الزيارة منذ إرسال مسودة الاتفاق. لكن بنتيجة الاتصالات بينه وبين الرئيس نبيه بري كان هناك اتفاق على عدم إجراء الزيارة إلا عند التأكد من إنجاز الاتفاق فتكون الزيارة مناسبة لإعلانه، حتى هوكشتاين كان قد أشار إلى أنه لن يجري الزيارة إلا لإتمام الاتفاق. ولكن منذ إرسال المسودة بدا الرجل متحمساً لإجراء الزيارة، حتى أن بعض المعلومات تحدثت عن إجرائه زيارة إلى لبنان فإسرائيل ومن ثم باريس، خصوصاً أن فرنسا تطلب أن يتم الإعلان من على أراضيها وبوجود هوكشتاين، فيصدر إعلان مشترك فرنسي أميركي حول الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار.
بقي هوكشتاين مصراً على إجراء زيارته، فيما رئيس مجلس النواب نبيه بري يفضّل عدم حصول الزيارة قبل إنجاز الاتفاق كاملاً، لا سيما أن هناك نقاط عالقة تحتاج إلى تعديل وإعادة صياغة وتفاهم. كان بري يفضل أن يتم معالجة هذه النقاط وإرسالها إلى هوكشتاين الذي بدوره يعمل على تثبيتها مع الإسرائيليين، وفي حال أنجزت المسألة تجري الزيارة. أما هوكشتاين فكان يقول للمسؤولين الذين يتواصل معهم إنه نجح في الأيام القليلة الماضية في تضييق الفجوات، وما أصبح عالقاً لا يتجاوز الـ10 بالمئة مثلاً، لذا هناك تفضيل لعقد لقاءات مباشرة للنقاش في هذه النقاط العالقة ومعالجتها بشكل فوري ومباشر.
لكن لبنان والذي لديه تجارب مريرة مع الإسرائيليين وخصوصاً مع نتنياهو، بقي متريثاً في ذلك، خوفاً من أن يأتي هوكشتاين إلى بيروت وعندما يتلقى الملاحظات اللبنانية أو التعديلات، يغادر إلى إسرائيل ويبلغها للإسرائيليين، الذين سيعتبرون أن لبنان هو الذي رفض المقترح ويتم تحميل اللبنانيين المسؤولية. كما أن الخوف من عدم القدرة على الوصول إلى تفاهم شامل حول النقاط مع هوكشتاين، فيغادر بيروت إلى أميركا. وحينها أيضاً سيتم اعتبار لبنان هو الذي أفشل الاتفاق، ما يفتح الباب أمام المزيد من التصعيد وسيعطي لإسرائيل المزيد من الوقت لمواصلة عملياتها وتكثيفها، وربما الانتقال إلى مرحلة جديدة من المواجهات. لذا، هناك إصرار لدى بري على إنجاز الاتفاق بشكل كامل والحصول على موافقة الإسرائيليين لإجراء الزيارة وتتويجها بإعلان وقف النار.