2024- 11 - 18   |   بحث في الموقع  
logo قائد الجيش عرض الاوضاع مع ابو الحسن والتقى مسؤولا عسكريا روسيا logo في الخيام وشمع... محور "مُلتهب" وفشل إسرائيلي في "الدخول" logo تعميم من ميقاتي إلى الإدارات والمؤسسات العامة logo منذ عام... التفاؤل الأميركي بوقف إطلاق النار في أعلى مستوياته logo في الغارة على شركة المياه... استشهاد مختار في مدينة صور وشخص آخر logo بيانٌ من "الشؤون العقارية" بشأن إستقبال وتسليم المعاملات! logo “حزب الله” شيع محمد عفيف في صيدا logo دبلوماسي "أجنبي" يوضح حقيقة انتقال مكتب حماس إلى تركيا
أوتوستراد وثلاثة اغتيالات
2024-11-18 13:25:50

أحاول عبثاً أن أشرح لك تعقيدات وخلفيات المسألة اللبنانية والواقع الحالي المزري ولماذا وصلنا الى ما نحن عليه.. وأنت المتابع لدراستك العليا في الكيمياء في إحدى الجامعات الكندية الباردة طقساً وناساً. لا يسعفني ضيق الوقت عبر الهاتف كل مساء سبت، ولا أميل الى الغوص عميقاً في تاريخ البلد المثقل بالمشاكل خوفاً من أن أكون ثقلاً أضافياً على كاهلك. وأنت تعاني في غربتك عزلة وسوء فهم في التواصل مع الآخر والعقل الغربي غير المعني بمآسي حروبنا في البلد وغزة.تسعفني كل صباح في لملمة أفكاري فيما أمشي نزولاً من عائشة بكار، مروراً بمنطقة الظريف، فشارع الحمرا وصولاً الى الجامعة الأميركية في بيروت. صغيراً، وأنا في العقد الأول من عمري، كنت أقصد هذه المناطق صعوداً. من تحت الى فوق. واليوم، وأنا في الخريف الستيني، أقطعها نزولاً، ولي في كل زاوية وفي كل شارع ومكان، ذكريات أستعيدها فأسلّي نفسي عن مآسي الحرب التي قلبت حياتي وحيوات الآلاف من اللبنانيين، رأساً على عقب.رحلتي الصباحية وزواريبها تشرح لك تاريخ البلد وتعقيداته ومراحله التي عشتها الى أن وصلت الى قناعاتي الحالية. فبيني وبينك هوة عمرية تتخطى الثلاثين سنة.في "زاروب حمود"(يُنسب لعائلة بيروتية)، حيث أقيم نازحاً اليوم، أستعيد أبي جالساً على كرسي خشبي في مقهى كان يقع عند زاوية الشارع تماماً، وبائع الفحم، ومعمل الكازوز. وفي الخارج على الطريق الرئيسية حيث "محلات دبوس" الأصلي، وقصر "كنيعو" وقربه عيادة طبيب الأسنان الذي خلع لي أول ضرس. ومن يومها أكره وأستهيب أطباء الأسنان. القصر كان الشاهد على أغتيال أول مفتي للجمهورية في الثمانينات. بقيت لوحة تذكارية تخلد اغتيال مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد الذي كنت أستمع لخطبه في جامع قريطم. على التقاطع، ترتفع مئذنة جامع "عائشة بكار" أمام الأوتستراد العريض الممتد من طلعة مبنى تلفزيون لبنان وصولاً الى منطقة الصنائع. عمتي وفيقة، تقع شقتها قرب ساحة الشهيد الشيخ أحمد عساف(الذي أغتيل في بيروت خلال الحرب الأهلية في 26 نيسان 1982). أخبرتني عمتي قصة هذا الشارع يوم كان ترابياً، ويوم افتتح مبنى "القناة 7" بحضور أهل وسكان المنطقة والرئيسين كميل شمعون وسامي الصلح، وأطرب الحضورالمطرب وديع الصافي. عمتي وفيقة، أطال الله في عمرها، حافظة ذاكرة عائشة بكار، رغم إقامتها الطويلة في باريس مع اولادها.الى جانب البناية، كان مقهى قديم يجتمع فيه كبار السن، يدخنون الأركليلة ويلعبون "طاولة زهر" ويتناقشون في السياسة. ما ميز ذلك المقهى أنه كان الوجه الحقيقي لأهل المحلة مع تحولات المنطقة السياسة. حتى صار اسمه "مقهى المستقبل"، بإدارة رجل بيروتي عتيق، رحل عن هذه الفانية، من آل سعيدون، زرته مرة وشرح لي أهمية الصور المعلقة على الحيطان وهوية أصحابها والدور الذي لعبوه. ومنهم سيدة كانت تتاجر بالسلاح من آلـ"انكدار"، وشاب قتل غدراً من آل العيتاني خلال أحداث 1958.الطريق نزولاً، يا عزيزي، نحو مدرسة خديجة الكبرى تؤدي إلى مسارات وذكريات، وطريق رمل الظريف نزولاً نحو "صيدلية بسترس"، تفتح أفاقاً وتعيدني سنوات طويلة الى الوراء. وتبقى الأمكنة دليل وقاموس كبار السن، ولو تغيرت الوجوه والميول.أمرّ تحت شقة عمتي وفيقة، فتشع أمامي ضحكتها العفوية الفطنة. وأمشي أمتاراً قليلة، فأتذكر "مدرسة الروضة" التي كانت في الجهة المقابلة، ثم يليها "مسجد القصار" الجميل ببساطته وضيق مساحته وتاريخه العريق. "مسجد القصار" يذكرني بجدي حلبيّ الجذور، الحاج أبو مصطفى، مرتدياً بذلته الرسمية وطربوشه الأحمر، متوجهاً بعد وضوء الى المسجد لإداء صلاة العيد مع ساعات الفجر الأولى. بيت جدي كان "روفياً" في بناية عيتاني القريبة، حيث كان يستمتع بلعبة النرد مع أصدقائه وأعمامي الكثر، وسط تنك الورد والحبق، وقمم الجبال تتكشف للناظر من بعيد. عاش جدي وجدتي في زمن الوسط، وكان الدين وسطياً. يكفي أن تصلي صلاة الجماعة يوم الجمعة وتصوم شهر رمضان المبارك وأن تخاف الله... فمن يخاف الله، لا خوف منه. حتى الحجاب في تلك الأيام.. كان حجاب اللسان والأخلاق لا كسوة للشعر، والعلكة عنزوقة في حنك!!نزولاً، تقع "مدرسة خديجة الكبرى" المقاصدية، وفي الجهة المقابلة ثكنة الدرك حيث كنت أسترق السمع لمعزوفات الفرقة الموسيقية كل صباح، وكنت أشهد فرار بعض العناصر فوق السور الى حرية العالم الخارجي المدني والفوضوي. ففهمت من يومها أن الدولة هي نفسها تتجاوز القانون. ثم يظهر أمامي مبنى ضخم أبيض يرفرف على سطحه علم من خمسة ألوان. إنه مبنى دار الطائفة للموحدين الدروز في بيروت. والألوان الخمسة هي الحدود الخمسة وشرحها يحتاج للكثير من التفصيل. الدار محاطة بقطعة أرض كبيرة تضم قبور أبناء الطائفة في بيروت ومقامات مقدسة. للمكان رمزيته ومكانته الخاصة. فأهل هذه الملة لعبوا وما زالوا يلعبون دوراً مميزاً في البلد، مستنيرين بنور العقل والحكمة والقول الحسن. صغيراً، سمعت أن المطرب والموسيقار فريد الأطرش، قدم للدار ثريا ضخمة وقيمة جداً كهدية. كان لي منهم خير الصداقات ولا يزال.إذا ما تابعت نزولاً ساصل الى فندق حديث زجاجي يقف مكان ملاعب "مدرسة الطليان" التي فتحت أبوابها خلال الحرب لشباب المنطقة كي يمارسوا كافة الألعاب الرياضية ويستفيدوا من نشاطات ثقافية ولو بمسحة تبشيرية ملطفة. وفي الجهة المقابلة، يقف صامداً حزينا "أوتيل البريستول" الذي شهد سلسلة أحداث سياسية ومؤتمرات. حاول عدد من النازحين إقتحامه مؤخراً.لكني سأعود، عزيزي، وأسلك الطريق من أوتوستراد عائشة بكار نزولاً نحو الشمال. وستكتشف معي، أن كل طريق وكل زاروب في هذا البلد، هي مسلك وخيار وشعار لا يلتقي بزاروب آخر، ولا يشبهه. على بعد عشرات الأمتار، يقع بيت المرحوم الرئيس سليم الحص، "الآدمي"، والذي لم يدخل في جيبه قرش حرام. سليم الحص المتزوج من مسيحية والمثقف المتنور الذي كان رئيس حكومة في جمهورية الرئيس الياس سركيس، والذي جرت محاولة اغتياله بسيارة مفخخة في منظقة الروشة في أول أيام عيد الفطر السعيد. رئيس حكومة نباتي، أخرج من الندوة البرلمانية لأنه لم يستغل منصبه ليرفع من رصيده الشعبي فيتحول زعيماً على قبيلة. أجتاز أمتاراً قليلة الى الأمام، لأجد نفسي أمام ثانوية الرئيس رينيه معوض الذي إغتيل أمام المدرسة في عيد الاستقلال. درست على مقاعد هذه المدرسة قبل الاجتياح الإسرائيلي، وكنا نُطلق عليها لقب "جمهورية رمل الظريف" لسطوة الأحزاب بين طلابها، وكثرة الاضرابات والمظاهرات التي كادت أن تقضي على مستقبلنا. كان الطلاب يرمون المقاعد والكراسي من الشرفات. كأنهم "كاميكاز فكري" خال من عقل وشرف قضية.في الجهة المقابلة، كان "حبس النسوان"، كما كنا نسميه. نتجمع أمام بوابته الحديدية السوداء لمشاهدة النساء المحكوم عليهن وهن ينزلن من الشاحنة الحديدية المخصصة لنقل المطلوبين. وعلى بعد أمتار قليلة، وقرب مدرستنا المتمردة، كانت ولا تزال مدافن رجالات الاستقلال. وأي إستقلال!! حسبي أن الذين رسموا العلم اللبناني بالأحمر على الجاننين – علموا أو لم يعلموا – أن الأحمر سيكون رمزاً لدمائنا ودماء الأجيال في تقاتلهم، في سلسلة حروب داخلية لا نهاية لها.نزولاً أصل الى صيدلية "بسترس" التي إشتهرت "بعملية بسترس" ضد قوات العدو الإسرائيلي الغازي في 16 أيلول 1982. بطل العملية كان مازن عبود الذي لم يكشف الحزب الشيوعي عن هويته ونشاطه المقاوم الا بعد رحيله بمرض عضال.على فكرة، عزيزي، كنت في شبابي في صفوف الحزب، لأني أحببت شرب البيرة وارتداء الجينز والصندل وصورة "تشي غيفارا" والنقاش البيزنطي.أخيراً أصل الى تقاطع شارع الحمرا، حيث كانت جريدة "النهار" التوينية، ومبنى السفارة الايطالية (وهو البلد الوحيد في لبنان الذي لم تُستهدف قواته بمتفجرة بعد الاجتياح)، والقاعة الزجاجية التي شهدت إنطلاق بدايات معرض الكتاب العربي في بيروت. شارع الحمرا هو الشارع–النهر والمصب لكل روافد البلد، ولكل حامل سلة أحلام من مكان بعيد ليعيش مغامرته الخاصة. شارع عرفته منذ بدايات السبعينات حتى اليوم. أحسبه شارعاً للإستعراض. من يفهم سره، يذوب فيه ويصبح من معالمه وروحه. ومن يحضره حديثاً، يتصارع معه ومع ناسه، يضيق عليه الشارع، فيحول الأرصفة الى مكان للتكدس، للتفرج على مشهد جديد. يختنق الشارع اليوم بالتكدس البشري، وبالسيارات والدراجات النارية... بالأراكيل، في ظل نزوح كثيف وحرب لا رحمة فيها..على وقع أنغام "أم كامل" (المسيّرة الإستطلاعية للعدو الإسرائيلي).عرفت الشارع في زمن موجه "الهبييز" و"قطط في شارع الحمراء"، والفرقة "16" وهيبة الدولة التي لا تزال تبحث عن حروفها المتناثرة في عواصم القرار. وعرفته في زمن "الكوفية" الفلسطينية و"كلاشينكوف خلي رصاصك بالعالي.."، وشهدت "قوات الردع العربية" وكافة عناصر الأحزاب الوطنية تحت مظلة "الحركة الوطنية" والختيار. وجاء إجتياح 1982، فصار الشارع مكب نفايات واسلحة، الى أن أعاد لنا الشهيد خالد علوان رونق وطهارة مقاهي الشارع في عملية "الويمبي".بعد السادس من شباط، عاد الشارع ساحة تقاتل وتنافس بين "الأخوة – الأعداء" الى أن حلت "موقعة العلم"، فنادى الناس "يا شام"، ودخلنا ودخل الشارع في مرحلة الوصاية. في زمن الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عاد الشارع الى عزه رغم ظاهرة "الداون تاون" النخبوية. عاد يلمع من جديد، وعاش الشارع في بحبوحة ولم يكن صاحب مقهى يتذمر من جلوس زبون لساعات على فنجان قهوة. الجرائد كانت تخفي الوجوه من المتطفلين، والجميلات الحسناوات يتبخترن، ومقاهي "المودكا" والكوستا"، والويمبي" تعيش عزها الأخير. كان "الحمرا" كفرقة أوركسترا تعزف للفرح والحياة والإحتفال.بعد اغتيال الحريري، شهد شارع الحمرا تراجعاً تدريجياً متوقعاً. كانت دور السينما قد أغلقت أبوابها منذ مدة طويلة. تحولت الى مولات لبيع الألبسة. ظهر الحجاب واللباس الشرعي في واجهات المحال. وبقيت الملابس النسائية المثيرة في محلات معينة. ظهرت الشعارات الدينية والاحتفالات المذهبية، وقوي جداً صوت الآذان. وصرت أشاهد صناديق التبرعات موزعة في الزوايا. "الصدقة تدفع البلاء". وفي عاشوراء، ينتشر اللون الأسود ولا يتردّد كثر برفع صوت الندبيات في سياراتهم كأن السائق على وشك دخول القدس فاتحاً.شارع الحمرا كان ولا يزال فسحة استعراض. خلاصة بيروت والبلد. واليوم لا يُحسد على حاله: نازحون من الجنوب والبقاع والضاحية، السيارات والدراجات تخنق الشارع، الأراكيل في كل مكان على الأرصفة، وأكوام النفايات تنتظر يوماً ماطراً ليطوف الشارع. والحرب الضروس والمجازر في الجنوب والبقاع وغزة مستمرة، مما يجعل كل هذه الفوضى تفاصيل لا يمكن تجنبها. إنتقاد أبن بلدك وهو ينزف نازحاً، وأهله وناسه يستشهدون في قراهم ضد عدو متوحش... يبدو ضرباً من الترف، ولو لم تكن ممن مشوا مع الشعار الواحد منذ البداية.أرأيت، عزيزي، الحياة، كما البلد، صعود وهبوط... الفرق فقط ثلاثون عاماً وأكثر.برودة كندا وناسها في هكذا أحوال، أفضل بكثير من ضجيج "أم كامل"، ووحشية السافل "نتن–ياهو".. ومشهد أمّ شابة محجبة تحمل رضيعها بيد والأركيلة بيد أخرى، وتمشي بين زحمة السيارات والدراجات في شارع الحمرا.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top