في الأول من تشرين الثاني 1948، حينما كان العرب يعيشون أحداث النكبة بكل ظلالها الكئيبة وتداعياتها المفجعة، قدم الممثل والمخرج محمود ذو الفقار ومن إنتاج زوجته عزيزة أمير، أول فيلم عربي تعرض لقضية النكبة وما تبعها من تهجير قسري عاشه أبناء الوطن الضائع تحت عنوان "فتاة من فلسطين"، شاركت في بطولته المطربة سعاد محمد وكل من زينب صدقي وحسن فايق.
ومنذ ذلك الحين ظل النقاد والمؤرخون يستحضرون هذا الفيلم مع كل موجة من موجات الصراع العربي الإسرائيلي باعتباره الأول في سلسلة الأفلام التي تناولت القضية، حتى مع غياب نسخة الفيلم، قبل أن تتمكن الفضائيات من عرضها عرضاً باهتاً في السنوات الأخيرة، ما اعتُبر كشفاً مهماً في تاريخ السينما المصرية وأيضاً في تاريخ أفلام القضية الفلسطينية، على الأقل بفضل ريادته وتصدره زمنيا للائحة تلك الأفلام. وبالتوازي، كانت هناك رحلة بحث شخصية طوال السنوات الماضية عن الكتيب الدعائي للفيلم الذي يضم معلومات وافية عن عناصره ونصوص أغنياته وبعض الصور الخاصة به، وهو تقليد سينمائي كان متبعاً قبل نهايات السبعينيات من القرن الماضي مع ظهور كل فيلم جديد.وأخيرا وجدته وسط ركام من الأوراق والمقتنيات القديمة لدى بائع يبدو أنه يعرف جيداً قيمة هذا الاكتشاف وأهميته التاريخية. يتصدر الكتيب شكر خاص كتبته منتجة الفيلم عزيزة أمير، هذا نصه: "أفلام عزيزة أمير تدين بالشكر العظيم لمعالي وزير الدفاع الوطني ورجال الجيش وضباطه من مختلف الأسلحة على كريم معاونتهم ومساعدتهم الصادقة التي كان لها أبلغ الأثر في تنفيذ فيلم فتاة من فلسطين وإظهاره بالصورة الرائعة التي ظهر بها".أما الفيلم نفسه فتدور أحداثه عن مأساة فتاة فلسطينية (سعاد محمد) قتلت العصابات الصهيونية أباها، وقبل أن يلفظ الأب أنفاسه الأخيرة أوصى ابنته بالهجرة إلى مصر لتعيش مع ابن خالتها الضابط الطيار (محمود ذو الفقار) وتبدأ الأحداث بأغنية دامعة تغنيها الفتاة المهاجرة في قطار رحلتها الإجبارية من فلسطين إلى مصر يقول مطلعها "إيش صابك يا صبية، يا فلسطين فارقناكي"، وفور وصولها إلى منزل ابن خالتها يبدأ فصل جديد في أحداث الفيلم حيث يقع في غرامها الضابط الطبيب، صديق ابن خالتها الذى يشعر بدوره بميل تدريجي حيال تلك الفتاة البائسة، وفيما هو الوضع كذلك تصدر الأوامر للجيش المصري النظامي بالدخول إلى أرض المعارك في فلسطين بينما تنضم الفتاة إلى الهلال الأحمر المصري. يصاب الضابط في إحدى الطلعات الجوية وينجح بأعجوبة في العودة بطائرته سليمة من دون أن نعرف كيف أصيب هو من دون أن تصاب طائرته. ورغم هذه البطولة التي أظهرها هذا الطيار، فإنه يفقد قدرته على المشي الطبيعي بعد إصابته المؤثرة في قدمه التي كادت تتعرض للبتر، وبعد العديد من المصادفات والمفارقات السينمائية المعتادة، يتزوج الضابط ابنة خالته لتنتهي أحداث الفيلم هذه النهاية السعيدة.وكما هو واضح، فإن الفيلم الذي عُرض في الأول من تشرين الثاني 1948، جاء بدافع الحماس تجاه أحداث النكبة وقيام دولة إسرائيل قبل هذا التاريخ بأسابيع قليلة، أو ربما – بفرض عدم تغليب حسن النية - جاء استغلالاً للحدث الجلل الذي شغل العرب من المحيط إلى الخليج منذ ذلك الحين وحتى اليوم. فالفيلم الذي كتبت قصته منتجته عزيزة أمير، وصاغ حواره الكاتب يوسف جوهر، بنى خطوطه العامة على حكاية الفتاة التي تعيش في بيت أحد أقاربها وتحبه في صمت بينما هو يتعرض لإصابة مفاجئة تترك له عاهة واضحة في الوقت الذي بدأ يشعر فيه بالعاطفة نحوها، فيقرّر تركها لغريمه الضابط الآخر الذي طلبها للزواج، والتضحية بحبه حتى لا يربط مصيرها بعجزه. لكن الحبّ ينتصر في النهاية كالعادة، في قصة تقليدية ميلودرامية غصت بها عشرات إن لم تكن مئات الأفلام المصرية. كل ما في الأمر أنّ صناع الفيلم جعلوا الفتاة مهجّرة من فلسطين بلا أهل ولا وطن، وجعلوا الشاب يصاب في حرب النكبة، وجعلوا سعاد محمد تغني أغنيتين عن تلك المأساة حتى يمكنهم – في النهاية- أن يعنونوا فيلمهم بـ"فتاة من فلسطين" مع أنه لم يكن يضير القصة أو الأحداث في شيء لو أتوا بأية خلفية أخرى تحتوى تلك الخطوط العريضة.
اللافت أن اختيار سعاد محمد لبطولة هذا الفيلم جاء بكل تأكيد للاستفادة من لهجتها الشامية حتى تكون أكثر مصداقية، ومع ذلك لم تنطق سعاد بأكثر من خمس أو ست جمل طوال الأحداث حتى لو احتل وجودها على الشاشة معظم زمن الفيلم، ويبدو أن تواضع قدراتها التمثيلية والأداء المبالغ فيه كانا السبب وراء اللجوء إلى اختزال جملها الحوارية إلى هذا الحد، غير أن ما عوض هذه القدرات التمثيلية المحدودة هو ذلك الأداء الغنائي الفريد الذي قدمته صاحبة الصوت الذهبي، رغم أنها لم تكن قد وصلت بعد إلى مرحلة النضج الغنائي الذي اقترن بصوتها والذي وصل إلى ذروته في أغنيات فيلم "الشيماء" سنة 1972. ومهما يكن، فإن سعاد محمد لم تكرّر بعد ذلك تجربتها في التمثيل سوى مرة واحدة في فيلم "أنا وحدي" سنة 1953 من إخراج هنري بركات، وبمشاركة كل من ماجدة وعمر الحريري، لكن بفضل هذا الفيلم تركت لنا المطربة الكبيرة مجموعة من أشهر أغنياتها مثل "يا مجاهد في سبيل الله، أغني لمين، بنت البلد، والهلال الأحمر"، بالإضافة إلى موال "أوف رحماك" الذي كتبه بيرم التونسي ولحنه عبد الغني الشيخ.
وحتى حوار الأديب يوسف جوهر، لم يخلُ من قدر لا بأس به من الخطابة والمباشرة، لا سيما في المواقف الإنسانية المؤثرة، وربما من حسنات الفيلم القليلة، إلى جانب أغنيات سعاد محمد التي شارك في تلحينها محمد القصبجي، براعة التصوير الذي قام به وحيد فريد، خصوصاً لقطات الطلعات الجوية التي لم يكن التصوير السينمائي قد تمرس فيها بعد.
ورغم هذا كله، يبقى لفيلم "فتاة من فلسطين"، شرف تصدره لائحة الأفلام التي تعرضت للقضية الفلسطينية، ويكفي أيضاً لكل من عزيزة أمير ومحمود ذو الفقار، منتجي الفيلم، إيمانهما القوي بالحق الفلسطيني وبالدور الذي يمكن أن تلعبه السينما في هذا المجال والذي تأكد في العام التالي مباشرة – 1949 – حين أقدم الاثنان على تقديم فيلمهما الثاني عن النكبة الكبرى والذي حمل عنوان "نادية" وأخرجه فطين عبد الوهاب، من بطولة عزيزة أمير هذه المرة، فجاء أكثر تماسكاً ونضجاً، متلافياً إلى حد كبير كل المآخذ والنواقص التي اقترنت بفيلمهما الأول عن القضية الفلسطينية.