أسدلت المرأة التي تحبّ الشمس أشرعتها، ثمّ هتفت: "غريبة هذه الفيروز التي نعيّد لبلوغها التسعين هذا العام. لا أعرف أغنيةً واحدةً لها تتشكّل من فرح خالص. كلّ ما أنشدته ينطوي، في مكان ما، على شيء من الحزن. ألم تغنّي في تلك الدبكة الجميلة عن ناي الليل المبحوح: يا ناي الليل روح/ صوتك مبحوح روح/ ليليّي بتبكي عبابي/ بيكفّيني جروح؟ كأنّ الناي المبحوح قرّر أن ينصب خيمةً له ويستوطن في أغانيها إلى الأبد".
كان دليل المرأة التي تحبّ الشمس إلى التصاق الظاهرة الفيروزيّة بما كانت تسمّيه "الحزن"، أغان حفرت في ذاكرتنا مثل "شو بيبقى من الرواية" و"قصقص ورق". هي ميلوديات لا نحتاج، كي نصطحبها معنا عندما نرحل، أن نصرّها في قماش، بل يكفي أن نحملها على أكفّنا كما تحمل طفلة عقد ياسمين لأوّل مرّة في حياتها. ثمّ نطير بها أو تطير بنا ونحن نمتطي الريح، كما قال ذات يوم شاعر العرب الأكبر. لكنّها أيضاً أغان تقول انكساريّة الوجود وظرفيّة الحبّ وهشاشة العمر الذي يتحوّل إلى "شراع مسافر". كذلك كان دليل المرأة الشمسيّة إلى الحزن المنبعث من المدى الفيروزيّ أنّ النصّ الشعريّ الرحبانيّ، حتّى عندما يلتمع فرحاً، لا تفارقه تلك المسحة من الكآبة التي ربّما ترتبط بالشرط الإنسانيّ الذي يسعى هذا النصّ إلى رسمه بالكلمات: "وان كان حالتها حالة/وع ريفا شفت دموع/قلّا عينيها قبالي/وهمّا بوجّي مزروع/بتحرقني هاك الضحكة/البدّا تحكي وما بتحكي/يا خوفي من خيالا/والبعد يغيّر حالا". كانت المرأة التي تحبّ الشمس تقول وتقول، وأنا أستمع إليها وأسكت. خيّل إليّ أنّي أستطيع مقارعتها بفيروزيّات أخرى يتكثّف فيها الفرح حتّى تكاد تخاله ينضح من حروف القصائد وسطور النوطة: "كان بفيّ الرمانة/في بنت محتارة/ وتضلّ متل التعبانة/ ولا تبوح بسرارا/ وكان في بلبل عاشقها/ يحكيلا حكاية/ بزهور يبقى يراشقها/ وتقلّو جايي/ وتنطر بالحارة/ وتعقد زنّارا/ وما تعرف شو في عبالا/ عبالا إسوارة". لكنّي آثرتُ الصمت، ربّما لأنّي حدستُ بأنّ "الحزن" لعلّه ليس الكلمة الفضلى لتوصيف هذا الذي لا يوصف في أغاني السيّدة التي تستشرف التسعين، والتي أسبغت على حياتنا أفياءً وأقماراً وهنيهات من ذلك العالم السحريّ الذي تأتي منه القصائد.
في أغاني هذه السيّدة شجن. وعلى الرغم من أنّ المعاجم التي بين أيدينا تعرّف الشجن على أنّه الحزن والغمّ، غير أنّ الشجن هو ضرب من الحزن الذي لا حزن فيه لأنّه ممزوج بالموسيقى، ولكونه يستعيد ما ذهب إليه أرسطو أنّ الفنّ محاكاة للوجود تطهّره من نتوءاته وتعرّجاته، وتجعله حيّزاً نستعين به على مواجهة الوجود بحسّ آخر. حين غنّت فيروز، ذات يوم من ستّينات القرن الماضي، لعصفورة الشجن، جمعت في صوتها هذا الذي لا يجتمع إلّا في قصيدة منصور الرحبانيّ المغناج. فصارت هي العصفورة، وهي الشجن، وهي الفرح الذي يتموّر به البحر حين تمخر السفن عبابه: "أنا يا عصفورة الشجنِ/ مثل عينيكِ بلا وطنِ/ بي كما بالطفل تسرقه/ أوّل الليل يد الوسنِ/ واغتراب بي وبي فرح/ كارتحال البحر بالسفنِ/ أنا لا أرض ولا سكن/ أنا عيناك هما سكني".
وفي أغاني السيّدة التي تبلغ التسعين دراما تكسر بشكل جذريّ مع التنميط الشعريّ والموسيقيّ الذي كان يهيمن على ثقافتنا قبل فيروز. وبخلاف الشائع، الدراما في أصلها اللغويّ ليست الحزن، بل الفعل، ولا سيّما الفعل المتصاعد الذي هو أصل الحبكة المسرحيّة: "باعت مرسال/يسأل عن بنت زغيرة/قال يوما قال/كان ينطرها بالجيرة/يا فاضي البال/ما تدوق انشالله الغيرة/ميّل خيّال/وانخطبت إنت وغايب". لئن لا يندر أن تكون الحرقة ذروة هذه الدراما كما في حكاية الخيّال الفاضي البال الذي باغته مرور الزمن فأخطأ الموعد، إلّا أنّ حبكة الأغنيّة الفيروزيّة ليست لحظةً تراجيديّةً بالضرورة، بل هي قادرة على أن تكون حبلى بلحظات أخرى كالثورة والتمرّد: "حلّفتني إمّي/ما حاكي حدا/ قالتلي يا أمّي/إيّاكِ العدى/إنتَ مش حدا/ولا إنتَ العدى/إنتَ اللي بعينيّي/رايي من الزَغَر". وربّما تكون الحرّيّة، حين تتفجّر، أبهى هذه اللحظات الدراميّة. إذ يرجّع الصوت الفيروزيّ صدى الفرح العميم الذي ينبثق من انعتاق الفرد من سلاسله، أو يتّحد بمستضعفي هذه الأرض ومسحوقيها مخلخلاً عروش المتجبّرين: "صرّخوا عالعالي/على العالي/ركضوا بالحقالي/على العالي/قولوا للحرّيّة نحنا جينا/وفرحوا".
كُتب الكثير عن فيروز التي تبلغ التسعين بعد أيّام قليلة. بيد أنّ العالم السحريّ الذي صنعته هذه المرأة بحضور صوتها الأسطوريّ يبقى عصيّاً على التحليل لا قبل التحليل، بل بعد استنفاد آليّاته ومناهجه جميعها. إنّه الصوت الذي يتّسع لكلّ شيء، ويتخطّى كلّ شيء. ولعلّ بعض سرّه الأعمق يكمن في هذا بالذات.