لا يمكن عزل الدعوة الجديدة من الرئيس أردوغان لتطبيع العلاقات مع سوريا، عن السياق الإقليمي الملتهب، والمتغيرات الحادة المتوقعة في المنطقة. وفي الوقت ذاته، قد تكون لهذه الدعوة أسباب مباشرة تتعلق بتطورات غير معلنة حصلت خلال مشاركة أردوغان وبشار الأسد في قمة الرياض الأسبوع الماضي.كانت أنقرة قد توقفت لأسابيع عن إطلاق دعوات المصالحة مع نظام دمشق، منذ آخر رغبة من الرئيس أردوغان في سبتمبر/أيلول الماضي. لكن "تمنّع" الأسد عن تقديم رد إيجابي في حينه، لم يغير في حماسة تركيا لتغيير نمط العلاقة الثنائية بشكل جوهري، بعدما صدرت إشارات مباشرة منها للمخاطر الجسيمة على الأمن القومي التركي يمكن أن تأتي من سوريا، في حال تعرضها لهجمات إسرائيلية واسعة تستهدف الميليشيات الإيرانية فيها، أو تعمد لإسقاط نظامها. وفي أكتوبر/تشرين أول الماضي حذر الرئيس أردوغان من أن "الإدارة الإسرائيلية التي تتحرك من منطلق هذيان الأرض الموعودة، تضع الأراضي التركية نصب عينيها بعد فلسطين ولبنان"، وكان قبل ذلك قد قال في مايو/آيار إن إسرائيل "تضع عينها" على منطقة الأناضول التركية في المستقبل إذا لم يتم إيقافها في غزة.
مثل هذه المخاوف التركية، لم تصدر من فراغ ولا هي بالتحشيد لأغراض الصراع السياسي الداخلي، لا سيما وأن المعارضة والحكومة اتفقا بعد الاجتماع المغلق للبرلمان الشهر الماضي، على خطورة الوضع وحساسيته، وهذا الإجماع الداخلي التركي، هو ما يجعل للهواجس التركية معنى وأهمية تتجاوز تركيا إلى الإقليم بكامله. وفي النهاية، فتركيا الدولة، العضو في الناتو، والصديق القريب من روسيا، لديها من المعطيات والمعلومات ما يمنح مخاوفها قدراً كبيراً من المصداقية.والأناضول التي يخشى عليها أردوغان من "عين" إسرائيل، هي قلب تركيا، وتشكل معظم مساحتها الآسيوية، وهي تمثل عراقة تركيا، وجوهرها الثقافي، والجزء القريب جغرافياً وحضارياً من الشرق الأوسط، وتحديداً من خلال التواصل مع العراق وسوريا. ومن هنا تركزت المخاوف التركية من انتقال الفوضى المتوقعة من امتداد الحرب الإسرائيلية إلى البلدين نحو الاناضول.
ويمثل الكانتون الكردي في شمال غرب سوريا، جوهر المخاوف الأمنية التركية، فهو ينفتح على سنجار في العراق حيث يتمركز حزب العمال الكردستاني، وبات يقيم شبه دولة بحماية أميركية، تمثل عنصر تغذية حقيقياً للقوى الانفصالية الكردية في تركيا، ويعتبر خطراً محدقاً بالأمن القومي التركي، وهو ما تستغله إسرائيل منذ وقت مبكر، للضغط على أنقرة، أو ربما أكثر من ذلك.ولم تكن مجرد مصادفة أن يكون أول تصريح لوزير الخارجية الإسرائيلي الجديد جدعون ساعر عقب تنصيبه، متعلقاً بتحريك الموضوع الكردي، حين اعتبر في العاشر من نوفمبر/تشرين ثاني الماضي أن "الشعب الكردي حليفنا الطبيعي"، وضحايا "للقمع التركي والإيراني"، وقال إن "إسرائيل يجب أن تمد يدها وتعزز العلاقة معهم، وهذا له جوانب سياسية وأمنية". وكان ساعر ذاته من أشد المدافعين عن دعم الكانتون الكردي في سوريا، حينما طرح ذلك للبحث في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، قائلاً في حينها إن "إسرائيل لديها قدرات لمساعدة الأكراد، وهذا سيكون ذا فائدة كبيرة في المستقبل". وكان ساعر يعقب في حينه على تصريحات لنائبة وزير الخارجية آنذاك قالت فيها إن "إسرائيل تساعد أكراد سوريا الذين يتعرضون لهجوم تركي على مدى شهر".
مثل هذا "الميراث" من العلاقات بين إسرائيل وكانتون "قسد"، يجب أن يقلق تركيا. وفي حالة الحرب الراهنة، وفرص وصولها إلى سوريا، فإن القلق يتحول إلى إنذار بالخطر الداهم. ذلك أنه بحالة الفوضى، وربما الحرب الأهلية التي يمكن أن تنشب بين الأطراف السورية، فإن فرص النفاذ للداخل التركي ستكون أكثر من واقعية، من دون إغفال أن إسرائيل لم تعد تنظر لتركيا كصديق، حتى أن وزير الخارجية الإسرائيلي السابق إسرائيل كاتس (وزير الأمن حالياً) توعد الرئيس أردوغان، وكتب عبر منصة "إكس" في يوليو/تموز الماضي "أردوغان يسير على خطى صدام حسين ويهدد بمهاجمة إسرائيل.. فقط دعه يتذكر ما حدث هناك وكيف انتهى الأمر".مثل هذا الخلاف والتهديد المتبادل، لا يستبعد أن يكون ضرب استقرار تركيا جزء من الأهداف الإسرائيلية، من خلال تحريك الكتلة الكردية الضخمة جنوب الأناضول. وهذا هو أحد أبرز أسباب حماسة أنقرة للتطبيع مع نظام الأسد، للتنسيق الدفاعي والأمني، في حال حدوث الأسوأ في الصراع الراهن في المنطقة. وهو ما تظن تركيا أنه مناسب لها ولسوريا على حد سواء، رغم أن الأمر أكثر تعقيداً بكثير من هذه المعادلة السهلة.