ذعر بين البنايات المتراصة. خوف على امتداد كيلومترات الأرصفة. رعب على الإسفلت. وجوه غير مغسولة لعشرات الآلاف يخرجون دفعة واحدة من أسرّتهم ويندلقون على الطرقات. طوفان من سيارات محشوة بالبشر كمرطبان الزيتون. طوفان دراجات نارية تحمل كل واحدة منها بمعجزة ميكانيكية عائلة بأكملها. سيل غامر كتظاهرة حاشدة من المشاة اللاهثين. صخب وصخب وصخب لا مصدر واحداً له. فرار غرائزي في كل الاتجاهات. ما أن تظهر تلك الخرائط البائسة الملطخة ببقع حمراء، والمحددة بعناية باردة، كلوحة غامضة، حتى يتكرر المشهد إياه: الإخلاء الجماعي المهين. الهروب إلى عراء بعيد، إلى أنحاء المدينة الأخرى، إلى مجهول التشرد المؤقت.. بانتظار الغارة المحتومة، بانتظار الصواريخ الدقيقة التي تعرف إصابة تلك البقع الحمراء، لتحولها إلى غيمة سوداء رمادية برتقالية بيضاء. عمل متقن بكل تفاصيله. شرّ تكنولوجي أعمى.
الخرائط المرفقة بالتحذير، التي باتت ضابطة إيقاع الحياة اللبنانية، راسمة المصير البائس للأمكنة وأهلها، هي هكذا قاحلة وفارغة إلا من خطوط وأشكال هندسية شديدة التجريد. خرائط محذوفة منها الحياة بأسرها. لا تصوِّر رجالاً ونساء وأطفالاً. لا شجر، لا طير، لا كلب، ولا قطة. بل لا أشياء. صورة فضائية ببعد واحد أملس.
"ابتعدوا 500 متر على الأقل" عن البقعة الحمراء، والمقصود بها مبنى ما. هذا هو فحوى الإنذار.على نحو يومي، يعيش لبنانيو الضاحية الجنوبية خصوصاً، في هذا "المختبر" الوحشي، الذي يتلحف بادعاء إنساني: تجنب الخسائر البشرية، عبر إبلاغ السكان مسبقاً بمكان الغارة. ونقصد بالمختبر، هو هذا التحكم التام والسيطرة المطلقة على السكان، الذين باتوا مستسلمين للاستجابة بلا أي مقاومة.
لم يطلب الإسرائيليون من أهل الضاحية إخلائها تماماً كما فعلوا في القرى الحدودية. يوحون إليهم أنهم يستطيعون البقاء واستئناف عيشهم في منازلهم وأعمالهم، وفي الوقت ذاته، وعبر سياسة الإنذارات أمسكوا بمصيرهم اليومي. وعلى هذا النحو، الذين نزحوا من الجنوب إنما نزحوا مرة واحدة واكتمل تهجيرهم، بينما سكان الضاحية يعيشون النزوح والعودة ثم الفرار فالرجوع. الذهاب إلى أقصى الذعر والارتداد إلى الطمأنينة. هكذا بات للإسرائيلي سلطة مطلقة على النوم والاستيقاظ، البقاء أو الخروج. سلطة تتلذذ بهذا التعذيب "الإنساني" و"الرحيم". مختبر سادي لمئات الآلاف تحت ذريعة: نحن نجنّبكم الموت.والاستسلام للاستجابة، العيش وفق الأوامر المرفقة بالخرائط، أصبح شيئاً فشيئاً روتيناً، وواقعاً للتأقلم والاعتياد، وربما مع الوقت سيخلو من التذمر. فها هم صاروا محترفين بتصفح "غوغل ماب"، قرّاء بارعين للخرائط يحددون فيها منازلهم والمسافات الفاصلة بالأمتار عن المكان المرشح لأن يتحول ركاماً. يستطيعون تخمين نوع الأضرار التي ستصيب بيوتهم: دمار كلي أو جزئي أو مجرد تشظي نوافذ وتخلّع أبواب.
بعضهم صار يحترف الفرجة. يجلس على بعد منتظراً المشهد المهيب، لحظة صدمة الصاروخ تتبعها اللحظة الخاطفة للأنفاس، العصف، فالدخان فانهيار المبنى بخفة فائقة. والتعوّد أو التكيف والتسليم والتعايش، هو السمة التي أضحت أساسية في حال اللبنانيين، الذين نزلوا منذ العام 2016 على الأقل على درجات الجحيم طبقة فطبقة، وراحوا يتكيفون ويسلّمون للكوارث النازلة بهم، فينطفئ تذمرهم من مصيبة حين تأتيهم مصيبة أكبر. وهكذا دواليك، في رياضة شيطانية يتمرون على مضغ المأساة تلو المأساة كغذاء وحيد لأرواحهم.
والواقف اليوم في العام 2024، إذ ينظر مثلاً إلى الغضب المليوني من أزمة النفايات عام 2015، سيستسخفه ويستصغره. ومن ينظر أيضاً إلى الاحتجاج الصاخب على ضريبة الواتساب التي أشعلت ثورة 2019، سيستهزء به. ومن يتذكر تبخر 90 مليار دولار وانكشاف الفداحة الميليشاوية المافياوية والفجور والفساد، ربما سيحسد ترف تلك الأيام. ومن يستعيد ذاك الانفجار ظهيرة 4 آب 2020، سيراه "حادثة عابرة" لا تستحق الاهتمام. بل ومن يتذكر الاستياء مثلاً من وجود ميشال عون رئيساً للجمهورية، سيترحّم على زمن كان فيه رئيس أصلاً.اللبنانيون اليوم -للمفارقة- يصيبهم الحنين لما انطوى من كوارث سابقة لا حصر لها. فهم موقنون أن طبقة الجحيم التي وصلوا إليها راهناً ليست الأخيرة، وتحتهم طبقات أخرى أشد هولاً تنتظرهم.
شعب بأكمله، ينتظر إشارة من ذاك الناطق العسكري وخرائطه الرمادية الملطخة ببقع حمراء، اللاعب بنرد النجاة والموت. أي حظ هذا؟