هناك ظاهرة تدعو الى التساؤل وتحتاج الى فهم وتبرير. ظاهرة رصدتها منذ جائحة كورونا وحتى عدوان الاسرائيلي 2024، سميتها الاختفاء والتواري. لا أسماء كبيرة في حياتنا وفي مجالات كثيرة اختفت وتوارت وانسحبت مثل نجمة تنوص في سماء. ولا أعرف هل هذا في حقيقته موقف مصمم من كل ما يجري في حياتنا. أم أنه زمن السكوت وملازمة البيوت؟ حتى إن هناك أسماء لا تسمع منها أو عنها شيئاً. أسماء لها رنّة الفضة والذهب اختفت عن المسرح كأنها ما بدأت أمراً لتكمله ولا سعت لأجل هدف أو قضية. باتت موجودة الآن في مكان يغص بالغائبين. وقد لا يعرف المرء أين أصبحت، أهي في البلد أم في المهجر أم غادرت هذا العالم؟!
لا شيء سوى الغياب الذي يأتي أحياناً على شكل هجرة إو إعلان الوفاة أو حتى الالتباس بين الأمرين. إلى هذا الحد ضاقت وتقطعت بنا السبل؟ إنه التيه إذا أو الضياع. واللافت أن البعض منهم يغيب نفسه قصداً أو ينقطع إلى عزلته المختارة أو المفروضة ولا يقطعها سوى باتصالات محدودة مع حلقة ضيقة. والذي سافر منهم، كأنه يؤثر الاغتراب في المنفى على الاغتراب في الوطن، على ما يقول الشاعر محمود درويش.
لا شك أن المصائب التي وقعت علينا ساهمت وعززت ذلك. فمثلاً، فرضت علينا جائحة الكورونا، العزلة وهناك من اعتادها. وهناك الأزمة الإقتصادية والانهيار المالي اللذان تركا في أعماقنا شعوراً قاسياً بالانتهاك. أما انفجار مرفأ بيروت، فترك في النفس جرحاً بليغاً باللا-أمان. وكذلك فشل الثورة أو الانتفاضة، قادنا من جديد إلى الخيبة. والسؤال: هل فرضت كل تلك الأزمات على الإنسان الواعي والمثقف نوعاً من الانسحاب من الواقع والالتهاء بتدجين الوقت بتفاصيل باهتة؟
إنها وطأة ثقيلة وصخرة لا ترحم. أنت لا تقوى أن تضع الانسان في هذا الاختبار أو التجربة كل سنة أو أقل، وفي قلب التفكر في مصيره وخياراته ومستقبله. كأننا أمام الباب المفتوح على مصراعين: المكان المفقود والزمان المفقود. وكأننا دوماً أمام فخ يتربص بنا في المكان عينه ونعلق فيه. كأننا مشدودون أبداً إلى مصائر قاسية وطرق مسدودة. هل نهرب؟ وليس هناك أكثر بشرية من هروب الإنسان أمام نفسه. هل نيأس؟ واليأس بحد ذاتها أمر لا-أخلاقي. ولا يبقى أمامنا سوى النكران، أو أن نلوذ بغرفة أو بكتاب أو بشمعة في الريح تصارع الظلام. كان الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا يقول: "أنا في حرب مستمرة مع نفسي". هذه الحرب التي لا تنتهي حتى تنتهي معها طاحونة الأنفاس أو يتوقف الصراع.
هل نحن ضحايا أم أشباح أم ظلال خافتة متهاوية؟
في كتابه "العبودية المختارة"، يقول القاضي الفرنسي اتيان دو لابواسي، أن الضحية الباكية أو المتباكية تتحمل قسطاً من المسؤولية في نظم الإستبداد وسيناريوهات العنف المتعاظم المتكرر. وطرح لابواسي السؤال الصعب: "لماذا نواصل إحلال من نوليهم شؤوننا وأمورنا محل الآلهة التي تحاسبنا ولا نحاسبها؟". ترى من يروي قصتنا في هذه البلاد وفي ليلها الطويل؟ مَن يحيا على حرمان الحياة يأنفها. لعله يبتعد من طريقها أو يتوارى كظل أو كطيف أو كصدى.