بمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لكِتَابْ "هذه أمور تحدث" للروائي والشاعر الجزائري صلاح باديس، عن دار البرزخ في الجزائر العاصمة ودار فِليب ريه في باريس، ضمن سلسلة "خمسة" المُخصَّصة للتَّرجمة من العربية إلى الفرنسية، تتهيَّأ الفُرصة للقارئ بهاتين اللُّغتين لاكتشاف خيال وجمالية وجه جديد للأدب الجزائري، يكتب متحرِّرًا من أغلال الشعبوية الأدبية والتنابذ اللُّغوي الخادِم لِجُلِّ السياسات والأفكار الرَّجعية. في "كتاب هذه أمور تحدث"، تمشي الجزائر على ألحان الموسيقى الأندلسية والراي، على أوتار الزلزال الذي يخلط ويُبْهم الأحوال. وكان لـ"المدن" معه هذا الحوار:- بعد قراءة "هذه أمور تحدث"، تجلَّى لي أنَّ هذا الكتاب هو كِتاب مشَّاء. كيف يكتب صلاح باديس؟ و كيف نشأ و تبلور مشروع هذا الكتاب؟* بدأ الأمر مع كتابي الأول، مجموعة شعرية بعنوان "ضجر البواخر"، وفيها ظهر هاجس المكان وتفاصيله. بالنسبة إلي، الكتابة هي خريطة مرسومة بالكلمات واللغة لإقليم مُعين. منذ البداية كان عندي اهتمام بفكرة "المتسكع/flâneur" كما وصلتنا من شارل بودلير، عن الرجال الذين يتمهّلون وسط سرعة مدينة القرن التاسع عشر، وهم يُنزِّهون سلحفاةً بدلاً من الكلب. كان أسلوب حياتهم كلّه مديحًا للبُطء. القصص جاءت من رغبةٍ ملحّة في السرد. قصائدي الأولى سردية. أردتُ جنسًا أدبيا يُمكنّني من التوسّع في السرد واستعمال مختلف درجات اللغة العربية. هنالك بعض الفقرات، في القصص، أستعمل فيها -جنبًا إلى جنب- الدارجة العاصميَّة مع عربية شاعرٍ من الجاهلية. هذا ما كنت أبحث عنه.
- تناولتَ في كتابك العلاقة بين الجغرافيا والمسارات الاجتماعية بشكل لافت للانتباه. غالباً من طبقات اجتماعية كادحة أو متوسطة، لا تطمح شخصيات خَاطِراتِكَ إلى نيل "اعتراف" الطبقات البرجوازية الجزائرية. لماذا؟* أتصور أن بعض الشخصيات تريد أن تنتمي للطبقات الأعلى وتحصل على امتيازاتها، ربما لا تأبه بالحصول على "اعترافها"، لكن الامتيازات بلى. كما توجد شخصيات أخرى طبعًا، أقرب للعبثية في تفكيرها، ولا يهمها سوى "خبزها كفاف يومها" ولا ترى أبعد من ذلك.- في خاطرة "حاجة جديدة"، نرى طبيبة تعيش ظروفاً اجتماعية ومِهنية صعبة على وشك ترك سنوات دراسة خلفها لفتح مغسلة مع زوجها. ما معنى هذا السيناريو العَبثِي؟* هذا المشهد "العبثي والساخر"، كما سمّيته، ربما هو أحد الحلول القائمة في بلدٍ كالجزائر. لا يُمكنك مواجهة مشكل "عبثي" ولا تملك كفرد إمكانية السعي لحلّه بطريقة عقلانية، فتتجّه لطريق آخر تمامًا. والنتيجة، المشكل يبقى قائمًا وتواصل أنت هروبك نحو الأمام.- الزلزال، كظاهرة طبيعية، سياسية واجتماعية، حاضر بشكل جوهري في كتابك. لماذا الكتابة مع الزلزال و أبعاده الجمالية؟* خلال كتابتي للقصص، بين العامين 2016 و2018، كان الزلزال حاضرًا كظاهرة طبيعية عشناها في الجزائر أكثر من مرّة. وبالخصوص منطقة شرق العاصمة. لاحقًا، عندما قرأت القصص كمجموعة وأنا أحضرها للنشر، رأيتُ "الشرخ" الذي يجتاز القصص على أنه "الحركة" في مقابل "ركود" السياسة والمجال العام. لم تكُن نيّتي وقتها أن يكون الزلزال رمزًا أو مجازًا يدلّ على شيء ما. طبعًا كانت رواية "الزلزال" للطاهر وطار، في بالي وأنا أكتب، وهي روايةٌ أحبّها، لكني لم أوظّف الزلزال كما يفعل هو. الزلزال موجودٌ في القصص لأنه موجود في الواقع. الكتاب صدر في 2019، سنة الحراك، وبعض القرّاء أوّلوا الأمر على أن الحراك هو الزلزال الذي كانت تنتظره الشخصيات. لم أتفق مع هذه القراءة، الزلزال في القصص يقبع في الماضي، في الذكريات… لكنّه أيضًا تهديدٌ قائم، مفاجأة وخبرٌ سيء. والنّاس في الجزائر يخافون المفاجآت.بالنسبة للهزّات الاجتماعية والسياسية، فهي -مرةٌ أخرى- واقع النّاس. فإن كان المجال العام والسياسة مغلقَين في الجزائر، ويتم تجريفهما بين الفينة والأخرى، حتى لا تحصل أي مفاجأة غير متوقعة، إلاّ أنّ المجتمع حيّ ويتحرّك ويخلق مساراته المتشعّبة وانفجاراته وشروخه وخطوط هروبه. نعم، المجتمع المُكبّل والمُحاصر، سواء من طرف النظام أو من طرف القوى الرجعية والمحافظة التي يحملها المجتمع نفسه؛ هذا المجتمع يتحرّك. درستُ العلوم السياسية، كان ذلك في السنوات الأخيرة من حكم بوتفليقة، وعملتُ مع أساتذتي على إحصائيات عامة للأمن الوطني، وقتها، كانت تُشير إلى وقوع أكثر من 20 ألف احتجاج في كل القُطر الجزائري سنويًا، طيلة عُشرية 2010. كل هذه المعلومات والأرشيف، بالنسبة إلي في خدمة التخييل والكتابة، قد أحدّثك مطوّلاً عن الاحتجاجات، لكنك في النهاية لن تجد في إحدى القصص سوى فقرةً تكون بمثابة ديكور أو سياق يخدم القصة نفسها.- نرى في خاطراتك نساء جزائريات متحرِّرات من تعليمات الفوقيَّة الذكوريَّة والتَّطرُّف الديني. هُنَّ تشتغلن، تفرحن، تحببن وتحتسين الخمر مع الأحبة، الأصدقاء والصديقات. كيف رسمت هذه الشخصيات في مُخيِّلتكَ؟* مع الزمن، أتمنى لو أفردتُ مساحةً أكبر للنساء في القصص، مساحةً لأصواتهنّ. أمّا كيف تُبنى الشخصية، مهما كان جنسها، فأتصوّر بالاستماع لقصص النّاس والتأمل في مساراتهم وتجاربهم، والاهتمام بما تفعل النساء وكيف يفكّرن. من أين جاءت الشخصية وإلى أين هي ذاهبة، ما محيطها وكيف عائلتها، مَن أصحابها وماذا درست، بأيّ لغةٍ ستتحدّث لو خاضت نقاشًا حميميًا أو سياسيًا… أشياء كهذه. خليطٌ من أسئلة وعادات يمتلكها الصحافي والباحث ربما، مع رشّةٍ من الفضول.- كيف تعيش الطبقات الاجتماعية الكادحة والمتوسطة، خصوصاً الفئات الشابة منها، في عاصمة يكاد يستحيل فيها الزواج والسكن بكرامة؟* لكلٍّ وحالته. يعتمد هذا على طبقتك ومحيطك ومعارفك أيضًا. هناك فنان جزائري معاصر، وهو صديق، اسمه هشام مروش، اشتغل على هذا السؤال من خلال عمل فني (عُرِض في غالري "ريزوم" بالجزائر العاصمة، ربيع 2023) وكان عنوانه "جزر أليفة"، يحكي فيه عن محاولة الشباب -المُهتمين بنمط عيش خارج العائلة والحي، لأن هنالك شباب غير مهتمين بإيجاد بديل للعائلة والمحيط التقليدي- خلق أماكن أليفة داخل الشقق والأماكن المغلقة لعيش لياليهم وسهراتهم. وطبعًا، هنالك من يسهر في أستوديو في شارع ديدوش مراد، وهناك من يسهر في شقة بباب الزوّار، وهناك من يسهر في كاراج (مستودع) بعين البنيان. الأكيد أن الجميع، في هذه الطبقة، عنده مشكلة سكن. ربما هذا هو أكبر المواضيع التي تشغل شخصياتي: المكان الخاص والمكان العام، وكل العلاقة المُركّبة بينهما.- في خاطرة "بيجو 505"، بأي طريقة لا تزال أشباح الحرب الأهلية الجزائرية (1990-2002) تسكن وجدان كريمو؟* الحسرة. الحسرة على العُمر الذي ضاع. في الوقت نفسه، سنوات التسعينات هي جزء من شباب السيد كريمو، ومهما كانت هذه السنوات مجنونة ودموية، إلاّ أنها تزامنت مع وقتٍ كان فيه "جاي للدنيا" أكثر منه "رايح منها"، لذلك فهو يشعر بالحنين لبعض الأوقات وسط الحسرة. مزيج مُركّب من المشاعر يتجسّد في الكوابيس التي تنتابه وفي الحكايات التي يُحب أن يقصّها على الأجيال الأصغر. السيد كريمو أيضًا متسكِّع بطريقته الخاصة، هو أيضًا يبحث عن البُطء في بلادٍ تبدو للوهلة الأولى جامدة ولا شيء فيها يتحرك، لكنها تسرق عمرك من دون أن تشعر.- إلى جانب السينما والفوتوغرافيا، يحظى الغناء الجزائري، من راي وشعبي وأندلسي، بمكانة مرموقة في كتابك. كيف ترى دَور الفنون في الكِتابة؟* أتصوّر أن الأدب، مثل السينما، يمتلك "غرفةً للأصدقاء" أو للضيوف، ويستطيع أن يستضيفَ فنونًا أخرى بِطُرقٍ مختلفة، أبسطها أن يذكرها بالاسم. كأن تقول أن الشخصية الفلانية مغرمة بسينما طارق تقية وأغاني الشابة الزهوانية. من جهةٍ أخرى، بالنسبة إلي، حضور الموسيقى عمومًا والأغنية خصوصًا في الثقافة الشعبية الجزائرية، في مختلف المناطق، مهمٌ جدًا، وهي ركيزةٌ للثقافة الشفهية التي نسمع الجميع يتكلّم عنها كلما تحدّثنا عن "الكتابة" في مقابل "الشفاهية" في الجزائر، من دون أن نفهم بالتحديد ما هي هذه الثقافة الشفهية.- أنت تكتب بلغة عربية منفتحة على اللَّهجات الجزائرية واللُّغة الفرنسية، التي هي لغة من لغات الجزائر؛ تُتَرجم أيضاً من الفرنسية إلى العربية. ماذا يمكنك أن تقول لنا عن الكتابة بين لغات وأصوات متعدة؟* أحبّ أن أقتبس كلمة صديقي الكاتب والمترجم المصري ياسر عبد اللطيف "je suis un ouvrier de langage" والتي يُمكننا ترجمتها، بشكلٍ غير دقيق إلى "أنا عامل لغة". أكتب بالعربية، بدرجاتٍ مختلفة بين الدارجة والفصحى، لكن أيضًا الفرنسية حاضرة، ليس عند الترجمة فقط، بل في الكتابة. وفي أغلب الأحيان تصير الترجمة كتابةٌ أخرى، وتصير الكتابة -أي كتابتي- ترجمةً للّغات التي في رأسي. الأكيد، أنني في الحالتين، خلال الكتابة والترجمة، أجدُ نفسي مع مسوداتٍ ونُسخٍ مختلفة من النّص نفسه، أنحتُ فيها وأعيد الكتابة حتى أحصل على "نسخة نهائية".- كيف تنظر لحال الثقافة والنقد في الجزائر بعد الحملة الذكورية الرَّجعية التي شُنَّت على رواية "هُوارية" وشخص إنعام بيوض إزاء تتويجها بجائزة آسيا جبار في التاسع من تموز/يوليو الفائت، من طرف "سادتي النقاد الدكاترة"، الكارهين المعادين للنساء اللواتي يكتبن من دون "مبايعتهم"؟* بالنسبة إلي، ما يُسمّى بالمشهد الأدبي في الجزائر، هو أطلال وورشة في الوقت ذاته، هذا اقتباسٌ من كاتب ياسين تكلّم فيه عن الجزائر، وهو صحيح تقريبًا إلى يومنا هذا. وسأحاول باختصار تحليل الإطار العام، وليس التفاصيل ولا مواقف وتصريحات الأشخاص، رغم خطورتها. بالنسبة إلي "حادثة الهوارية" هي تعبير عن كلمة مهمّة في سياقنا الجزائري عمومًا، ألا وهي: النُدرة. نُدرة الأماكن التي توزّع فيها الدولة جزءًا من الريع والثروة، فتجد الأفراد والجماعات تتشاجر وتتقاتل للفوز بمكان. سواء كان جائزة أو منحة أو منصبًا. النُدرة الثانية هي نُدرة فضاءات التعبير، من الجامعة إلى الصحف والمجلات -الصحافة في الجزائر اليوم هي أرضٌ محروقة وحقلٌ من الأطلال- مما يجعل النّاس يحوّلون فايسبوك إلى بديلٍ غير فعّال لكل فضاءات التعبير. النُدرة الثالثة تمسّ دور النشر، فما عدا الانتقادات التي وُجّهت لِلُغة الرواية (التي أسمّيها واقعية ويسمّيها المعترضون بذيئة) وجّه آخرون انتقاداتٍ تخصّ أخطاء النحو وتراكيب الجمل، وهذا عمل دور النّشر ومحرّريها حتى يخرج العمل بأفضل صورة ممكنة، لكن للأسف، وفي بلدٍ تناضل في دار النّشر كي لا تُغلق يبدو هذا العتاب ترفًا. عندما تُغلق الفضاء العام وتوزّع الريع بالقطرة، فأنت تخلق نُدرة في الأماكن والفرص، وكبتاً مهولاً وشعوراً بالمظلومية والحُڨْرة في المجتمع الذي تُسيّر وترعى شؤونه. اعتماد سياسة ومنهج أكثر انفتاحًا وعدالةً قد يُساهم في خلق أجواء نقاش وإبداع ونقد أقلّ احتقانًا وأقل مرضيةً ممّا نعيشه.