قبل يومين أتى اقتراح التحالف صريحاً من جدعون ساعر، وزير خارجية إسرائيل الجديد، ضمن كلمته في حفل تسلّمه المنصب من سلفه يسرائيل كاتس. ساعر أشار إلى أهمية تعاضد الأقليات في المنطقة، داعياً إلى تعزيز العلاقات مع المجتمعات الكردية والدرزية في الشرق الأوسط، حيث اعتبر الأكراد حلفاء طبيعيين لإسرائيل، وأشار إلى الدروز في لبنان وسوريا كشركاء محتملين. وأضاف: "يجب أن نفهم أنه في منطقة، حيث سنكون دائما أقلية، فإن التحالفات الطبيعية ستكون مع أقليات أخرى".أهمية كلام الوافد اليميني الجديد إلى حكومة نتنياهو أنه يبدو كمن يضع الخطوط العامة، المستقبلية، للسياسة الإسرائيلية. بل إنه يعِد بتغييرات كبرى في المنطقة، تتعدى قوة واستقواء إسرائيل على جيرانها الأقرب الضعفاء إلى تهديد القوتين الإقليميتين تركيا وإيران، وقد ذكرهما صراحة بالقول أن الأكراد ضحايا القمع التركي والإيراني. ومن المعلوم أن أنقرة تعتبر المسألة الكردية تهديداً وجودياً لأمنها، أما تفجير المسألة الكردية في إيران فمن المرجح أن يحرّض باقي الأقليات في بلد يشكّل فيه الفرس حوالى نصف سكانه فقط.
من المؤكد أن كلام ساعر لا يندرج في مخططات دولية تهدف إلى تفجير تركيا وإيران، وإلى إعادة رسم خرائط المنطقة ككل. فاليوم ليس من قوة تتبنى مشروعاً بهذه الضخامة والكلفة العسكرية والمالية، وترامب "بوصفه صديقاً مقرَّباً لإسرائيل" يريد إيقاف الحروب لا إشعالها، وينأى بنفسه عن تأثيرات المحافظين الجدد من حزبه الجمهوري، وعن طموحاتهم المتعلقة بالتدخل من أجل تغيير العالم.
إلا أن عدم وجود سند دولي لأفكار ساعر لا يعني انعدام تأثيرها، أو عدم تمثيلها لمزاج إسرائيلي هو السائد حالياً. فالجانب الأساسي من الأقوال يذهب إلى الإقلاع عن فكرة التطبيع مع الأغلبية العربية، والتطبيع فكرة اقترنت طوال عقود بتحقيق السلام في المنطقة. أي أن تحالف الأقليات، من وجهة النظر هذه، هو على الضد من التطلع إلى السلام، ولا ينطوي من جهة إسرائيل على مقاصد سلمية فيما يخص القضية الكردية أو الأقلية الدرزية.في الشق الدرزي تحديداً، لا توجد في الأصل قضية درزية تبرر أقوال ساعر، فالدروز في بلدان تواجدهم لا يطرحون مطالب سياسية بالمفهوم القومي. هم في لبنان منخرطون في اللعبة الطائفية أسوة بالجميع، ولا يطالبون بالانقلاب على نظام المحاصصة المعمول به. وفي سوريا يرى الدروز أنفسهم أولياء الوطنية السورية، من دون تعارض بين الوطن السوري الذي تنادي به مثلاً انتفاضة السويداء الحالية وبين الحرص على الخصوصية المذهبية.
في إسرائيل نفسها، الدروز مندمجون ضمن الدولة، طالما أن الأخيرة تحفظ لهم أيضاً خصوصيتهم، والخطر الوحيد الذي يهدّد اندماجهم يأتي من عنصرية قانون يهودية الدولة الذي يحيل حاملي الجنسية من غير اليهود إلى مواطنين من الدرجة الثانية. وربما يكون هذا العامل دافعاً وراء الطرح الخبيث المتعلق بالدروز، فالقول بوجود مسألة درزية يبرر عدم إدماج دروز إسرائيل، بما أن لهم قضيتهم المنفصلة، وبما أن إسرائيل هي حل للقضية اليهودية حصراً. على ذلك يمكن استخدام دروز إسرائيل كجسر إلى دروز لبنان وسوريا، من أجل استحداث قضية درزية، والقسط الأكبر المتوقع لنجاح هذا المسعى هو التسبب بمزيد من عدم الاستقرار في البلدين.غني عن القول أن الحلف الذي ينادي به ساعر سيكون بقيادة إسرائيلية، لأن إسرائيل وحدها المهيَّأة لقيادته، وهو إعلان صريح بخلاف الأقاويل التي راجت أحياناً ضمن نطاق محدود هنا أو هناك لاتهام الدروز أو الأكراد بعلاقة مع إسرائيل، أو بالعمالة لها. ولا يُستبعد أن يقدّم خطاب ساعر مادةً مرغوبة لطهران وأنقرة، فالأولى منهما تستثمر في العداء لإسرائيل، والتصريح يعطيها ذريعة للنيل من نضالات الأكراد، وربما غير الأكراد، بتصويرها كمؤامرة إسرائيلية على البلاد ووحدتها.
لا يختلف الأمر في تركيا التي تتفق فيها الأحزاب الكبرى على الهاجس الكردي، وفي معظم الأوقات تم اعتماد الحل الأمني والعسكري لمواجهة المطالب الكردية؛ كما حملها على نحو خاص حزب العمال الكردستاني. دخول إسرائيل على خط المواجهة سيُقابَل على الأرجح باصطفاف داخلي تركي يرفض التدخل الخارجي، ويذهب إلى تصلّب أشدّ إزاء المطالب الكردية. تحذيرات أردوغان قبل أسابيع من تمدد إسرائيلي في سوريا تصبّ في المنحى ذاته، وليس مجّانياً إطلاقاً أن يعتمد ما يمكن تشبيهه بخطاب ممانعة خاص به، أي أنه يراهن على حساسية تركية يتخوّف أصحابها حقاً من دعم إسرائيلي للأكراد.قد تنجح تل أبيب في استقطاب قسم من الأكراد وقسم من الدروز، لكن من المشكوك جداً فيه أن تنجح في استقطاب الغالبية منهما، ما يجعل العلاقة بهما أدنى بكثير من الحلف الذي يلوّح به ساعر. وبصرف النظر عن كون الفائدة المنتظَرة إسرائيلية فقط، فإن صاحب الدعوة إلى الحلف يدرك وجود مستويين يمكن الاستثمار فيهما؛ أولهما وجود قضية كردية في المنطقة عمرها تجاوز القرن، وعدم وضعها على سكة الحل منح العديد من القوى الدولية والإقليمية، وحتى ما دونهما كسلطة الأسد، إمكانية اللعب بالورقة الكردية. هذا يمنح إسرائيل، نظرياً، القدرة على أن تكون لاعباً يُحسب حسابه، وعلى أن تنقل المعركة من حدودها إلى الداخل الإيراني في المقام الأول، والتركي متى لزم الأمر.
المستوى الثاني، المتعلق بالاستثمار في الموضوع الدرزي، أقل أهمية وجهوزية من الشق الكردي. ومصدر قوة إسرائيل، نظرياً أيضاً، يأتي من ضعف لبنان وسوريا، وليس المقصود به ضعف البلدين الراهن، وإنما ضعفهما التكويني منذ استقلالهما وصولاً إلى ما هما عليه الآن من ركاكة. هذه الوضعية فتحت، وستفتح لاحقاً، على اتخاذ أية جماعة، أو أي جزء منها، المواقف التي تناسبها من دون اتفاق "وطني" عليها، ومنها اتخاذ سياسات خارجية خاصة يتحدد بموجبها (على انفراد) العدو والصديق.في كل الأحوال، حتى مع التقليل المطلق من أهمية التصريحات، تشير أقوال ساعر إلى مشكلتين حقيقيتين، ولو أنهما من طبيعتين مختلفتين نسبياً. بمعنى أن إسرائيل لن تستطيع التدخل، أو التهديد به، ما لم تكن المشكلات المزمنة قائمة، أو مستفحلة منذ زمن طويل. وهو طرح يتجاوز بالطبع أطروحة شمعون بيريز الغابرة عن السلام في الشرق الأوسط الجديد، ويتجاوز أطروحة نتنياهو "المضادة لتصور بيريز" في كتابه "مكانة بين الأمم". جدير بالانتباه أن سؤال مستقبل المنطقة مطروح إسرائيلياً، وتتغير الإجابة عليه من وقت لآخر ومن موقع لآخر، بينما يغيب السؤال ذاته عند الذين تستهدفهم الإجابات الإسرائيلية.