يوم الأربعاء الفائت، توفي واحد من أبرز الشخصيات المثيرة للجدل في المِخيال الشعبي، الدمشقي خصوصاً، والسوري عامةً. أحمد راتب الشلاح، الذي نعاه اتحاد غرف التجارة، بوصفه "شهبندر تجار سوريا"، رغم مضي نحو عقد ونصف العقد على مغادرته لمناصبه الرسمية في رئاسة غرفة تجارة دمشق، واتحاد غرف التجارة.وإن كانت موسوعة "ويكيبيديا" تُعرّف كلمة "المِخيال" بأنه "ضوء يستعمل لعكس صورة أغراض داكنة اللون أو شفافة على الشاشة"، فإن سيرة عائلة الشلاح وأدوارهم في الحياة العامة السورية، تُعتبر تصديقاً عملياً لهذا التعريف. وإن كانت الأوساط المتخصصة في العلوم الإنسانية تُعرّف تعبير "المِخيال الشعبي" بأنه "آلة محركة للثقافة الشعبية يعمل على نسج صور معينة حول نماذج من الشخصيات"، فإن أحمد راتب الشلاح ووالده، بدر الدين، كانا من هذه الشخصيات التي حاكت الثقافة الشعبية، الدمشقية، صورة معينة لهم. تميل للإدانة بصورة واضحة. وتستجلب مرويات شفوية أقرب إلى النميمة، وصِفات أقرب للشتيمة في عُرفِ هذا "المِخيال". من ذلك، أن آل الشلاح، عائلة يهودية. إذ تجد الكثير ممن يؤكد هذه "المعلومة"، التي لا دليل عليها في أي من المصادر المتعلّقة بتوثيق الأنساب الدمشقية. ناهيك عن "وصمة الماسونية"، و"الأخوّة" المتخيّلة التي تربط بدر الدين الشلاح بحافظ الأسد، في إحدى محافلها السرّية، ذات الارتباطات الخارجية، الصهيونية على الأرجح.ويتحمّل رمزَا العائلة، جانباً كبيراً من المسؤولية في استجلاب هذه النميمة الشعبية الرائجة حولهما، وحول أسرتهما. بدءاً بالأب، بدر الدين، وطموحه بأن يكون أكبر من مجرد تاجر، وأن ينخرط في عالم التأثير بالسياسة في سوريا منذ الأربعينات، قبل أن يتوقف طموحه عند سقف "شهبندر التجّار"، لقباً وفعلاً، والذي حدّده له النظام، في عهد مؤسسه، حافظ الأسد. مروراً بالابن، أحمد راتب، الذي انتهج فنوناً من "التقيّة" والغموض في نشاطه العام، والتمس صورة بين العامة من الناس، تعكس وزناً أقل مما هو عليه في الواقع. ومن الأمثلة على ذلك، إحدى التصريحات الصحافية، التي أجاب فيها عن حجم ثروته، بالقول: "ليس لديّ مئة مليون دولار ولكن معي أكثر من مئة ألف".
هذه النميمة الشعبية التي كانت رائجة حول آل الشلاح في المجتمع الدمشقي، لم تنعكس سلباً على نفوذ هذه العائلة وقدرتها على التأثير. بل على العكس. على غرار مفتي سوريا التاريخي، أحمد كفتارو، الذي كانت تُنسج حوله الكثير من النكات الدمشقية التي توحي باستسهاله تأويل النصوص الدينية خدمةً للطاغية، لكن التصاقه بالسلطة زاد من نفوذه الفعلي في الوسط الديني المعني به، رغم أنه ألهب النميمة الشعبية حياله. وهو تعبير عن "نفاق" المجتمع العاجز عن الفعل، في ظل العنف السلطوي الجاهز للوصول إلى أعلى العتبات الممكنة، إن تم تهديد كرسي الحاكم. فتكون ممالأة المحظيين والوسطاء لدى السلطة، أفضل السبل للسلامة، وحماية المصالح.لكن قد يكون السؤال الأهم، بمناسبة وفاة الرمز الثاني لآل الشلاح، أحمد راتب، هو: ما مآل البرجوازية الدمشقية التقليدية في ظل قيادة هذه العائلة للوسط التجاري فيها، لنحو ثلاثة عقود ونيّف؟ الجواب يتضح في مآل نفوذ هذه العائلة ذاتها، اليوم.
ولفهم ذلك بصورة أفضل، يجب الوقوف عند مشهدين، ومسلكَين، بين الأب والابن، كانت بينهما اختلافات نوعية. فخلال مواجهة نظام الأسد الأب مع الأخوان المسلمين في الثمانينات، بالتزامن مع الحراك اليساري والنقابي الحاد، كان بدر الدين منحازاً بشدة للسلطة. ولا يزال دوره في إجهاض إضراب تجار دمشق في تلك الحقبة، واحداً من أكثر الحوادث المثيرة للجدل، والتي نُسجت حولها عشرات المرويات الشفوية، وتناقلها الدمشقيون لعقد ونصف تالٍ عليها. وبعيداً عن الحقائق التي تضيع في زحمة المرويات، فإنه من الصعب تجاهل المكانة التي حظي بها بدر الدين، لدى حافظ الأسد، بعيد تلك الحقبة. لكن، في عهد الأسد الابن، والشلاح الابن، اختلف المشهد، واختلف المسلَك أيضاً. فمع ثورة العام 2011، وقف أحمد راتب على الحياد، وسط مرويات شفوية –أيضاً- تتحدث عن دعمه السرّي للحراك السلمي. ومن ثم، شارك ابنه في نسج مبادرة لحل سياسي، لم تُرضِ لا النظام ولا المعارضة. قبل أن يغيب "شهبندر التجار"، عن العاصمة السورية كليةً، إذ نقل مقر إقامته إلى بيروت، وأصبحت دمشق، محط زيارات روتينية، لا أكثر.ويمكن قراءة جانب آخر من مصير نفوذ العائلة، في غياب ولدَي أحمد راتب، بدر الدين، وعمر، عن أي مشهد تجاري أو استثماري فاعل في البلاد. ويكفي التذكير بحادثة ذات معنى، في عام 2020، حينما تم حل شركة أسسها عمر الشلاح، في مجال تجارة السيارات وقطعها التبديلية، وذلك بعد أربعة أشهر فقط من التصديق على تأسيسها. ويمكن أن نجد مفاجأة ذات معنى أيضاً، في تصنيف منصة "من هم" لعمر الشلاح. فهذه المنصة المعنية بتوثيق سِير ونشاطات رجال الأعمال العرب، تشير إلى أن عمر، لبناني الجنسية، ويقيم في الإمارات، ويدير شركة في قبرص. لتغيب سوريا تماماً عن ملف نجل "شهبندر التجار".
خاتمة تشير إلى الفرق بين الواقع ومرويات "المِخيال الشعبي". فمكانة آل الشلاح صعدت أكثر، حينما تحالف رمزها، بدر الدين، مع النظام، بصورة لا تذبذب فيها، في عهدٍ كان فيه حافظ الأسد، مهتماً بالتحالف مع البرجوازية الدمشقية التقليدية. فيما انحدرت هذه المكانة، بعد أن تذبذب أحمد راتب في موقفه من النظام، في عهدٍ فقدت فيه البرجوازية الدمشقية التقليدية بريقها وتأثيرها لصالح دخلاء على مجتمع الأعمال، من أبناء المسؤولين قبل 2011، ومن تجار وأمراء الحرب، بعد 2011. ولم تُسعف "اليهودية" المنسوبة لهم، ولا "الأخوّة الماسونية" المُتخيّلة، مكانة العائلة. فرموز المجتمع المنخرطين في آلة النظام الاستبدادي، مجرد أدوات، يتم تقييمهم بناء على ثنائية الأهمية والولاء، مقابل غض الطرف عن تدبيرهم لمكاسبهم بكل الطرق المتاحة، بما فيها الفاسدة منها.