"إنه بوغروم جديد". هذا ما أجمعت عليه تعليقات المسؤولين الأوروبيين على أحداث العاصمة الهولندية، أمستردام، على هامش اللقاء الكروي الذي جمع فريق أجاكس الهولندي وفريق مكابي تل أبيب. ولقد أصرّت وسائل الإعلام الغربية في معرض معالجتها للخبر على أنه يتحدث عن أعمال عنف ارتكبها مهاجرون عرب ضد مشجعي الفريق الإسرائيلي. وابتعدت التوصيفات عن أية محاولة لتقصي الوقائع وتبيّن الدوافع. وبعد صمت شبه تام للدولة الفرنسية عن إهانة الإسرائيليين لها باعتقال أمنيين فرنسيين في القدس المحتلة، على هامش زيارة وزير خارجية باريس، لم يجد الرئيس إيمانويل ماكرون حرجًا في أن يُسارع إلى نشر تغريدة ندّد من خلالها بما اعتبره اعتداءات ضد المشجعين الإسرائيليين، مشيرًا إلى أنها تُعيد إلى الأذهان -المنحازة بنيويًا- أحداث زمن غابر. وهو يقصد به الزمن الذي عرف المجازر والاعتداءات المنظمة ضد اليهود في أوروبا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. وبعيدًا عن سرعة الضوء التي نشر من خلالها ماكرون تغريدته، وقبل أن يستوضح الأمور، فهو لم يتراجع قيد أنملة عما هرف به، بعد أن انتشرت الحقيقة في جلّ وسائل التواصل الاجتماعي وفي البعض النادر من الإعلام المرئي والمسموع، وفي البعض القليل من الصحف. والتي تحدثت عن استفزازات وحرق أعلام وعنف وشتائم عنصرية ودموية أطلقها الإسرائيليون. اليوم، يُستخدم مصطلح "بوغروم" للإشارة إلى أي نوع من أحداث شغب مهما كان المسؤول عنها لمجرد أن أحد أطرافها من الإسرائيليين.مصطلحٌ آخر تدور حوله الدوائر ويتكرر عشرات المرات يوميًا في الخطاب الإعلامي وفي الخطاب السياسي في الغرب، وهو "معاداة السامية". وفي أيامنا هذه، يبدو أن هذا المصطلح أصبح بطاقة الجوكر التي تُستخدم في كل نقاش. أن تشجب جرائم الاحتلال الإسرائيلي، فأنت إذًا معادٍ للسامية. تطرح تساؤلاً عن فلتان المسؤولين عنها من العقاب، بالتأكيد، فهذا مناهض للسامية! ولقد وصل الأمر بأحد نجوم التفاهة التلفزيونية بأن اعتبر توجيه الانتقاد لبرنامجه هو معاداة للسامية لمجرد أنه يدين باليهودية. قريبًا، سنجد أن حتى القهوة الرديئة في الصباح تُتهم بالتآمر وبأن إعدادها يدخل ضمن معاداة السامية.
المفارقة هي أن استخدام المصطلح بشكل خاطئ، قد يُعطي الحجّة لأولئك الذين يعتقدون أن اليهود يبالغون في استخدام الاتهامات لتحقيق مصالحهم الخاصة. بعبارة أخرى، فإن هذا الابتذال للمصطلحات، مثل البوغروم ومعاداة السامية، يُغذي نظريات المؤامرة بدلًا من محاربتها. والأسوأ من ذلك، فهو يقوم بحرف الانتباه عن الأفعال الحقيقية لمعاداة السامية، تلك التي تستدعي رد فعل عاجل. وبالنتيجة، يمكن اعتبار من يقوم بذلك معادٍ للسامية فعلاً.استغلال هذا المصطلحات وغيرها بشكل مفرط، يجعل منها أمرًا عاديًا. وهذه العادية ترتد بنتائج عكسية -في هذه الحالة- على اليهود أنفسهم. فعند فقدان معنى المصطلح وقيمته، تصبح القدرة على محاربة معاداة السامية الحقيقية وإدانة البوغروم الفعلي إن حصل مرة أخرى، ضعيفة حقًّا. في الماضي، كان اتهام شخص ما بمعاداة السامية أمرًا خطيرًا للغاية ويمكن له أن يُثير مجتمعًا بكامله. أما اليوم، فإن هذه التهمة تُلقى يمينًا ويسارًا مثل توزيع النشرات على أبواب المترو. والواقع بأنه، ومع مرور الوقت، ننسى ما يعنيه المصطلح فعلاً. فإذا أصبح كل شخص ينتقد سياسات إسرائيل أو حتى يطرح أسئلة مجردة يُوصم فورًا بمعاداة السامية، فكيف يمكننا تمييز الخطابات الحقيقية للكراهية؟ الأمر يشبه الصراخ "حريق" في مسرح مزدحم لمجرد أن أحدهم عطس. في النهاية، يتوقف الناس عن الانتباه. والنتيجة أنه عندما يندلع الحريق الحقيقي، يكون الأوان قد فات.ماذا لو أصبح مصطلح مثل "الإرهاب" مبتذلًا بالطريقة نفسها. حينها سيتوقف الناس عن الانتباه لوقوع عملياته، وسينعم الإرهابيون بحرية حركة أكبر. هذا تمامًا ما يحدث مع معاداة السامية. الاستخدام المفرط للمصطلح أشبه بإطلاق النار في الهواء. صحيح أنه يُحدث ضجيجًا، لكنه لا يصيب أحدًا، إلا أولئك الذين باتوا على حافة الجنون من تكرار الأسطوانة نفسها. لذا، حينما تسمع شخصًا يتهم الآخر بمعاداة السامية، تسائل عما إذا كان هذا الاتهام مبرر حقًا، أم أنه مجرد رد فعل تلقائي؟ ربما، إذا عاد التوازن إلى استخدام هذا المصطلح، سيمكن له أن يستعيد تأثيره وقيمته الفعلية. لأن معاداة السامية والعنصرية والتمييز، كلها اتهامات تستحق كل الانتباه والاهتمام، وليس مجرد تضخيم لفظي يبتذل المضمون وينتهي إلى خسارة الجميع.كان يا ما كان في قديم الزمان، في قرية صغيرة، عاش راعٍ شاب. كان هذا الراعي يقضي كل يومه في رعاية أغنامه على تلال القرية. وفي يوم من الأيام، قرر أن يلهو قليلاً، فصاح "ساعدوني، الذئب يهاجم أغنامي". فأسرع أهل القرية لإنقاذه وحماية الأغنام. ولكنهم اكتشفوا أنه كان يستهزئ بهم، ولم يكن هناك ذئب أصلاً. وكرّر النداء نفسه أيامًا عدة حيث كان أهل القرية يلبون النداء. بعد أيام قليلة، هاجم قطيعه ذئب حقيقي فصاح "أرجوكم، ساعدوني". ولم يأتِ أحد لنجدته. لقد كان أهل القرية على يقين بأنه يكذب عليهم مرة أخرى.