الرفض الإسرائيلي العلني لإحراق جنوده علم لبنان في أحد المنازل الجنوبية، لا يتعدى كونه محاولة لخلق شقاق داخلي بين "حزب الله" وسائر اللبنانيين. وهو جزء من دعاية مضللة، لا ينفكّ الجانب الاسرائيلي عن إدعائها، وقد ساعدته بعض وسائل الإعلام اللبنانية ومحادثات "السوشيال ميديا"، عن غير قصد، في ترويجها.
إحراق العَلَم
وانتشر مقطع فيديو لجنديين إسرائيليين في أحد منازل الحافة الحدودية بجنوب لبنان، يحمل أحدهما عَلَماً لبنانياً عُثر عليه ضمن محتويات المنزل المحتل، فيما يحمل الآخر ولاعة ويشعل النار بالعلم.
والعَلَم، في العُرف الدولي، هو رمز وطني، لا يتصل بأفراد، ولا يعبّر عن مجموعات، بل يرمز الى سائر البلد ومؤسساته وشرعيته المكفولة، قانوناً، في الأمم المتحدة.
صعب جداً أن ترى هذا المشهد وتصمت أن ترى علم بلدك يُحرق أمام عينيك من أعداء الإنسانية ولا تغضب ولا تعترض ! إنهم يحرقون العلم اللبناني وليس أي علم حزبي إنهم ينتهكون سيادة وكرامة كل لبناني وكل لبنان .. علمنا شرفنا وعرضنا وهويتنا #اسرائيل_إرهابية pic.twitter.com/NTkYNi7rf9
— Rabia Zayyat (@rabiazayyat) November 8, 2024
أشعل الجنود النار بالعَلَم، انتقاماً من لبنان، الذي يشكّل، بتكوينه الثقافي والاجتماعي لجهة التنوع والشراكة بين المكونات، نموذجاً مناقضاً لفكرة قامت عليها إسرائيل، وكرستها حكومة اليمين المتطرف منذ سنوات، عبر تكريس "يهودية الدولة"، مما يعني إلغاءً لكل المكونات الدينية الأخرى، واعتبارها "درجة ثانية"، لا تحظى بالحقوق نفسها.
إحراق لبنان
ويمثّل إشعال العَلَم، صورة مصغّرة عن النار التي يشعلها جيش الاحتلال في منازل المدنيين على الحافة الحدودية، وفي المعالم التراثية والحضرية والإنسانية في بعلبك وصور والنبطية وبنت جبيل وغيرها في عشرات القرى والبلدات والمدن، بالقصف الجوّي والتفخيخ والتدمير الممنهج. فالإسقاط الرمزي لإحراق العلم على لبنان بأسره، هو خطة تمضي بها قوات الاحتلال، بمعزل عن النكران الإعلاني في أدبيات الجيش، الذي يروّج لصورة إنسانية، ومعايير إخلاقية، تدحضها الممارسات.
توسعة الشرخ بين اللبنانيين
والحال أن المضيّ في إحراق البلد، لا يحتاج إلى تنكّر أو توضيح أو تراجع. لكن الجديد فيه، هو الاستثمار الدعائي في التراجع، لغرض أكثر خبثاً، يتمثّل في توسعة الشرخ بين اللبنانيين، والعمل على تكريسه، عبر الإيحاء بأن القتال محصور بـ"حزب الله"، وليس بلبنانيين آخرين، تمهيداً الى عزله.
بذلك، يسعى الإحتلال إلى نزع صفة "اللبنانية" عن الحزب وعائلات مناصريه وبيئته الشعبية، طالما أن التدمير طاول هذه البيئة.. كما ينزع الهوية اللبنانية من آخرين من طوائف أخرى، مثل السنّة والمسيحيين، الذين استهدف الاحتلال حواضرهم الثقافية ومنازلهم في مروحين ويارين والضهيرة وعلما الشعب ويارون ومرجعيون.. ويحاول خلق الشقاق بين مكونات لبنانية، تختلف حكماً بالسياسة الداخلية، وتلتقي بالتأكيد ضد عدو خارجي، تضامناً مع سائر اللبنانيين، وهو ما عكسه الترحيب منقطع النظير بالنازحين الهاربين من المقتلة الاسرائيلية.
إنزلاق الإعلام
والخطاب الإسرائيلي، التقسيمي والفئوي، ساهمت وسائل الإعلام ومداولات "السوشيال ميديا"، عن غير قصد، بتكريسه. كلما استهدفت اسرائيل منزلاً أو منطقة، يتم البحث عن الخلفيات، وتتساءل تلك المداولات عما إذا كان الهدف ينتمي إلى "حزب الله"، وما إذا كان هناك شخص من الحزب قد عَبَرَ في المنطقة أو الحيّ، وما إذا كان القتلى على صلة بالحزب. يبدأ الاستقصاء، بجهد استثنائي، لتثبيت تلك المعادلة الدعائية التي وضعت إسرائيل اللبنانيين في حلقتها المفرغة، مما يكرّس الدعاية الإسرائيلية، المدفوعة بثلاثة خطب لرئيس حكومة الحرب بنيامين نتنياهو استهدف بها "الشعب اللبناني"، وبعشرات الرسائل والبيانات والخطابات التي وجهها الناطق باسم الجيش أفيخاي أدرعي إلى اللبنانيين.
في الواقع، تشن إسرائيل "حرب إلغاء لبنان التي تهدد التنوع والتعايش بين الأديان والحضارات في البلاد"، كما قال وزير الخارجية عبد الله بوحبيب في خطابه الأحد. تلك الحقيقة الوحيدة، وما إحراق العَلم إلا افتضاح لنظرة الاحتلال تجاه لبنان، رغم سرديات النكران.