تتّصف العولمة بالتباس مفصليّ يمكن أن نطلق عليه تسمية "ثقافة السوبرماركت". فهي، شأنها شأن السوبرماركت الذي يُغرق روّاده بأنواع كثيرة من الصنف ذاته (الجبنة مثلاً)، تُغرق الذين يعيشون فيها بإمكانات شتّى لمعالجة المعضلة الواحدة. السؤال عن معنى الحياة، مثلاً، له في الثقافة المعولمة ألف جواب وجواب: من الأديان التقليديّة مروراً بالأشكال المستحدثة من الدين الفرديّ والجماعيّ ذي الطابع التلفيقيّ، وصولاً إلى ظاهرة البحث عن المعنى في جماهيريّات من عالمَي الغناء وكرة القدم، غالباً ما تبدو وكأنّها محاولة لاستنباط شيء من دين بديل. وفي الطبّ، ثمّة ذاك المدرسيّ التقليديّ، وثمّة أشكال عدّة من الطبّ البديل، حتّى إنّ بعضهم يلجأ إلى شامانات عولميّة للتداوي من السرطان. هذا التعدّد، الذي هو بحسب علماء الاجتماع معلم من معالم المجتمعات الحديثة، يصاحبه ضرب من الضيق الوجوديّ يعتري الإنسان حيال ما يشعر به من صعوبة في الاختيار.أين مكمن الالتباس في هذا كلّه؟ إنّ ثقافة العولمة هي ثقافة الحلول السهلة وشبه الجاهزة من حيث كونها، مثل السوبرماركت، تغوي المرء بالاستهلاك من دون أن تتطلّب منه إمعاناً في التفكير. لكن، من جهة أخرى، هذا الذي تغويه مدعوّ إلى القيام بعمليّة اختيار بين احتمالات شتّى، حيث أنّ السهولة الموعودة تقترن حتماً بصعوبة الانتقاء. مردّ الالتباس، إذاً، أنّ العولمة تكاد تعد الإنسان الفرد بالشيء ونقيضه معاً. فهي تزيّن له سهولة الحصول على الحلول الجاهزة، لكنّها تطالعه بصعوبة الاختيار، فيجد نفسه حائراً وفي ضيق مع نفسه.
إذا نقلنا هذا المعطى الثقافيّ والمجتمعيّ إلى عالم السياسة، فإنّ المحصّلة غالباً ما تكون انتخاب قادة سياسيّين يشبهون دونالد ترامب: بشر يستطيعون اختزال ظروف سياسيّة واقتصاديّة وبيئيّة معقّدة، عبر اللجوء إلى معادلات سهلة وجمل لغويّة قريبة المنال، ما يجعلهم قادرين على أن يوفّروا على البشر مشقّة الاختيار. الشاعر الفرنسيّ العظيم بول فاليري اعتبر ذات يوم أنّ كلّ ما هو بسيط خطأ، لكن كلّ ما هو غير بسيط غير صالح للاستعمال. ثمّة، إذاً، ضرورة للموازنة بين السهولة والصعوبة في الخطاب والعمل السياسيَّين: الإمعان في السهولة يفضي إلى الشعبويّة. ولا أسهل من أن تقترن هذه الشعبويّة باستغلال ظواهر مرضيّة مزمنة في سيكولوجيا الجماعات، مثل الخوف من الآخر المختلف، وصولاً إلى أبلسته واعتباره مسؤولاً عن كلّ المصائب والآفات. غير أنّ الإفراط في الصعوبة "مضرّ كوضع السيف في موضوع الندى"، كما كتب شاعر العرب الأكبر، لكونه يفضي إلى تغرّب الناس عن العمل السياسيّ الجادّ بسبب عدم قدرتهم على فهم المبرّرات الكامنة وراء ما يتّخذه السياسيّون من قرارات، وفشلهم في ربط هذه القرارات بمعيشهم اليوميّ.
ظاهرة إعادة انتخاب السيّد ترامب، وما سبقها ويرافقها من صعود لليمين المتطرّف في غير بلد أوروبيّ، تحيلنا إذاً على ضرورة استنباط لغة سياسيّة جديدة تعكس هذا التوازن، الذي أومأ بول فاليري إلى ضرورته. لكنّ المسألة تتعدّى مجرّد اجتراح خطاب سياسيّ مختلف. ثمّة شقّ سيكولوجيّ لا بدّ من أخذه في الحسبان، لعلّه من العوامل ذات الشأن التي أدّت إلى عودة ترامب إلى البيت الأبيض "على أجنحة النسور"، كما يقول العهد القديم. لئن كان الرجل مصاباً بآفات تكاد لا تعدّ ولا تحصى، أوّلها الذكوريّة وليس آخرها الضلوع في أعمال جرميّة والتلاعب على القضاء، إلّا أنّه يوحي لمريديه، ولكُثُر من غير مريديه أيضاً، بأنّه "منسجم" مع أفكاره. فهو لا يشبه أفواج السياسيّين الذين يحاضرون في الأخلاق والديمقراطيّة وحقوق الإنسان ويباركون قتل الأطفال في فلسطين ولبنان وأمكنة أخرى من العالم. طبعاً، ترامب ليس أكثر منهم إنسانيّةً. لكنّه، بخلاف الآخرين، لم يدّعِ يوماً لذاته أنّه يبني سياساته على المبادئ الأخلاقيّة الصرف. وهو لا يستحي من الترويج لمُثُل أخرى في السياسة، هي أقرب إلى المركنتيليّة وفلسفة النجاح ومنطق القوّة. ينتج من هذا أنّ انتصار ترامب جزء منه يعود إلى انفصام منافسيه وفشلهم في تقديم نموذج سياسيّ ديمقراطيّ أصيل، يستند إلى مرجعيّة الأخلاق في الممارسة السياسيّة كما ذهب إليها أفلاطون العظيم.
ربّما يكون الدرس الأهمّ الذي يمكن استخلاصه من إعادة انتخاب دونالد ترامب ضرورة تجديد الفكرة الديمقراطيّة في السياسة، وذلك في عالم معولم يكاد تعدّده يودي بالمعايير والبوصلات جميعها.