…وهكذا تواطأت معي صديقتي على أن "عقدة الصمت"، التي لازمتني منذ منتصف أيلول، ستُحلّ بلفّ طنجرة من ورق العنب بالزيت. لكني سرعان ما اعترفتُ لها بأن هذه المهمة التي استغرقت ساعات، وأبعدتني عن العصف الإخباري المتواصل في ذهني، محققة أحد أهدافها على المدى القصير، فشلت في إنجاز هدفها الأسمى. لم تفتح الباب السحري للكلام، بل لالتهام اللفائف خلال دقائق، كما الهمّ حينما ينكبّ علينا من كل صوب. والهمُّ كبير لا تتسع له هذه الطنجرة، ولا صدور الأمهات اللواتي جفَّت حلوقهن من الدعاء.أكتب اليوم على أمل تلمّس لماذا حلَّ الصمت بي...الصدمة تتجلى علينا أحيانًا باختفاء الصوت، وكذلك الغضب الشديد والحنق ومشاعر أخرى لا نقبل ابتلاعها، فتعلق عند حنجرتنا وتلتف حولها. بالأمس، نصحتُ رفيقتي بتناول شراب ساخن بالعسل، وبالراحة من المحاضرات، لتخفف أثر الضغط النفسي في حبالها الصوتية.أما أنا، فهذه النصيحة ليست لي ولا تنفعني بشيء.أنطق على نحو سليم، وأرفع صوتي غاضبة، مستاءة، مستهجنة تغريدات الشماتة والتهكم وصراخ "البلطجية المثقفة" في وجه من يتهمونهم "عن حق" بمحاولات ثنيهم بمنشور عن "الحديث في السياسة الآن"، وأخفضه للونس مع أحبائي وإيداع غصات ونهنهة أحيانًا في ختام رسالة صوتية تصلهم مع مراعاة فرق التوقيت.أطيل في رسائلي الصوتية لإفراغ حمولة من استحالة تصديق قدرة "الضحايا" على إطلاق أحكام التخوين والعمالة والتهديد بالقصاص وتحليل إراقة دماء "العملاء" على طريقة الأحكام العرفية.هل كتمت صوتي طوعًا، وفق منطق المعتقدين بالخرافات... فصدقت أن لصمتي قوة في درء تعاظم لمصيبة أراها تحل بنا؟ هل آثرت سكوت اليقين؟ أم أني عمَّقت مكان الكتم في داخلي لكي أضمن أن لا شراكة لي في حفلة الهستيريا القائمة؟لعلي توهمتُ أن انحياز نصي للذاهبين عنا، عن قناعة أو بإرادتهم المسلوبة منهم، سيفجر الاحتقان ويمنع تعاضدًا ولملمة رأيتها واجبة من دون تشكيك أو مساءلة أو محاسبة أو تمنين أو عبارات ساخرة مذيلة بجملة " قلنا لكم ذلك ولم تسمعوا منا". هل لذتُ بالصمت خوفًا من الاشتباك؟ أم منعًا للانزلاق إلى المشاركة عن غير قصد في سيل نار انفعالات مشوبة بعبثية اللحظة؟تسللت من وراء النص غير المكتوب، لأراقب الذين أخذوا يضربون الكف بالكف، والذين تدافعوا على خط واحد لتنسيق الكلام بمزايدات مفتوحة، متسائلين عن "أخطاء حزب الله" التي لا تحصى، عن "فائض القوة" الذي تعاظم فحجب عنه رؤية الحبة عند نهاية أنفه الطويل، وظنها جبلًا ارتفع فوقه الخصوم. لأتابع كيف مدوا أيديهم إلى خابية الخطاب واستلوا منها كلامًا أصبح بمثابة "لطمية" يرددها من لا يملك معرفة ما العمل الآن. هم أيضًا، أقبلوا على اللحظة غير مستعدين، مزودين بأدوات لا ترقى إلى ما تطورت إليه الحالة، بل مجرجرين مواقف بالية بلا رؤية مواكبة أو لاحِظة لتمايز واجب، ومعها انحياز له انحناءات إلى الماضي، لتواريخ وملامات لا تستقيم إلا عند الخوف من موت ودمار سيلحقان بالجميع، وليس فقط بمن لم يكن له رأي في قرار الحرب والسِّلم والإسناد أو المناظرة من بعيد.أتنقل بحذر وخطوات خفيفة، خلف منشورات تبكي "الطائفة" التي أهلكتها، قبل غيرها من اللبنانيين- الطوائف، قراراتُ حزب الله، وفي ذلك تبدو كمن يبكي جزءًا منها وليس كلها. وكأنه ترحّم مبتور يقتصر على "الشيعة" ما قبل حزب الله، و"الشيعة" الذين تمثلهم "جوليا فتاة الخيام والبيانو". وماذا عن الباقين؟ هل يجب نسيانهم لأنهم يحرجون الموقف الإنساني المشوب بالسياسي؟ كيف أفنَّد ببرودة، مقاربة إكزوتيكية للشيعة ألمسها في هذه المنشورات؟ كيف أصيغ استنكاري لتصنيف مَن يستحق الرثاء ومَن ليس جديرًا به طالما أنه لم يرفض حزب الله، أو لم ينكره تمامًا؟وهل لي من طاقة على تبيان تهافت كل الذين يصرون على بيع الإنكار تحت شعار "كل المآلات انتصار، كل الخسارات انتصار"، وصفات من السجع لا تحمي ولا ترمم ولا تدمل. ساعات من الهواء الملوث، مباشر مفتوح على ابتذال وامتهان. واجتراح المعجزات غير ممكن. لا قدرة آنية للحزب للخروج من ثوبه بخيارات تلائم رغبات اللبنانيين الآخرين، ولا يظهر اللبنانيون الآخرون قدرة على الاستيعاب وابتكار حلول من دون كيد وتعاظم محليين.لذا أواظب على التنقل الأبكم بين خبر وآخر على شاشة الهاتف، بدلًا من الانصياع إلى رغبتي في الخروج إلى الشارع لأركض وأصرخ حتى انتهاء المدى. لعل هذا الإطباق على المكتوب هو انكفاء إلى حين استعادة صوتي عندما تنتهي الحرب... ألم تنتهِ الحرب بعد؟