حتى الساعة الثانية عشرة من بعد ظهر اليوم الخميس، كان البحث لا يزال جار تحت أنقاض المنزل المعروف بالـ"دار الكبيرة" في حي الشيقان بمدينة بعلبك، عن طفلة رضيعة مفقودة، هي واحدة من أبناء عائلة إسبر في بعلبك، التي أبيد أفرادها بغارة إسرائيلية، بالتزامن مع غارة مشابهة نفذها الطيران الإسرائيلي على "بيت بعلبك التراثي" المعروف بالمنشية. فخلّف العدوان على بعلبك "المدينة" مجزرتان في دقائق قليلة، واحدة بحق البشر والثانية بحق الحجر.دمار واسع في المدينةبفقر مدقع يعيش آل إسبر الذين كانت دارهم الكبيرة في الماضي تحتضن كل أبناء العائلة رغبة من مؤسسها بجمع أبنائه وعائلاتهم تحت سقف واحد. مع تطور الأيام، كبرت العائلة، فتوسع الأحفاد بمختلف نواحي المدينة، ولم يبق منهم سوى من هم أفقر الفقراء.أدت الغارة على هذا المنزل إلى سقوط 9 شهداء و15 جريحا، بعض هؤلاء يعرفهم أبناء حيّهم الذي يغرق أيضاً بفقره، بأنهم عمال نظافة في البلدية، فيقول جارهم عاطف شبشول "أن عقلاً لا يمكنه أن يصدق بأن مصالح حزب الله ستجد لها بيئة مناسبة في هذا المكان".لا يشبه حي الشيقان ولا حي الغفرة الملاصق له، الصورة التي تختزنها ذاكرة كل لبنان حول مدينة الشمس بأعمدتها الشامخة صموداً على مر العقود. إلا أن محيط القلعة تساوى معهما، من خلال تحويله هدفاً لعدوان إسرائيلي لم تقرأ أهدافه الفعلية. سويت منشية بعلبك بالأرض، نتيجة الحقد الذي خلف مجزرة كبيرة بحق جزء من تاريخ المدينة وتراثها. وقد أدت الغارة على المنشية إلى إستشهاد ثلاثة أشخاص، إضافة الى أضرار مادية امتدت على مساحة واسعة من المحلات التجارية، والمعالم التراثية المحيطة بـها. فبدا واضحاً أن إسرائيل من خلال عدوانها على هذا المكان، تقصدت إيذاء لبنان بألم بعلبك.توجه البعلبكيون صباح الخميس بكثرة الى محيط القلعة، وكأنهم يريدون أن يبحثوا بعيونهم عما يكذّب الخبر. وكان بين من حضروا لتفقد أبناء الحي المواجه للقلعة، الأب ميشال مارون غاريوس الذي لم يخف ألمه على بعلبك جراء المجزرة المرتكبة بحق كل لبنان وأهله فقال: "هذه بعلبك لا يمكن المس بها، وهي رمز وشمس" مضيفاً "لا بد أن يتعلموا الدرس، لبنان سيعلم الدرس لكل من اعتدوا عليه، ولتتذكر كل الأمم والدول، أن لبنان سيعلم الدرس لكل الدول" وقال "لا نريد شيئا من أحد، ولكن دعوا الرب يزور ضمائركم وعقولكم كي تستيقظوا وتدركوا أنكم تعتدون على أثمن بلد، وأن كل من يمس بلبنان خاسر لا محالة".أضرار جسيمة مقابل القلعةمع أن الغارة في هذا المكان لم تتسبب بأضرار مباشرة في قلعة بعلبك، إلا أن عصفها وصل حتى حدود أعمدتها، وتسبب تطاير الحجارة الكبيرة من مبنى المنشية بالإضافة الى قوة الإنفجار الى أضرار جسيمة لحقت بجميع المحلات التجارية المواجهة لمبنى القلعة. فشهدت المنطقة صباحاً ورشة تصليح لأبوابها الحديدية، التي لم يتمكن أحد من فتحها بسهولة.غير أن الضرر المعنوي الموازي للمادي وقع في فندق بالميرا. الفندق الذي إرتبط إسمه بتراث مدينة بعلبك وأيام عزها بدا في أسوأ حالاته مع تطاير أبوابه ونوافذه وتحطم جزء من ممتلكاته التراثية. بالإضافة الى تضرر بيت الخوري في أنطش سيدة المعونات التراثي أيضاً، وإلى أضرار كبيرة لحقت بنوافذ معظم المنازل القائمة في حي القلعة الملاصق لمكان الغارة.في موقف الزوار الذي يحتضن المنشية تضررت أيضاً مجموعة من وسائل النقل من باصات وسيارات. ندى كانت تراقب أمام الموقف عملية لملمة جزيئات من أشلاء تطايرت في المكان، مع دموع في عيونها، وقد روت أنها كان يمكن أن تكون من بين الشهداء لو أبكرت الى هذا المكان الذي تحول مأوى لها منذ الإنذارات التي وجهتها إسرائيل الى مدينة بعلبك.أبعد من حالة الرعب التي يتحدث عنها شبان تجمعوا في المكان كانت حالة الذهول التي أصابتهم إثر إنتشار معلومات عن سرقة اللوحة التذكارية لبيت المنشية!. وهي لوحة تراثية قديمة حفر عليها تاريخ نشأة هذا البيت، وذكر أن أحدهم سرقها من المكان إثر سقوط المبنى. ويوازي شر هذه السرقة بالنسبة للبعلبكيين العدوان الإسرائيلي على مدينتهم.تتضمن اللوحة وفقاً لصورة لها أرسلها الى "المدن" عضو المجلس البلدي السابق أنطوان ألوف تاريخ نشأة هذا البيت الذي بناه في سنة 1928 الياس أسعد الباشا، وورثه عنه نجلاه غسان وأسعد، كان قبل حرب الثمانينيات يستخدم كإستراحة، وإستخدمه الفنان حارس حيدر لعرض جزء من الحرف التراثية البعلبكية، وشغّله أيضا بعد سنة 1996 كمطعم بالإشتراك مع مرشد الحوارني. احترق المكان قبل ثلاث سنوات، وأقفلت أبوابه، ولكن محيطه بقي يضج بحيوية، أصبحت جزءا من ذاكرة البعلبكيين، خصوصاً أنه كان أول ما يطل عليهم من الطريق العام لتظهر في خلفيته تماماً أعمدة بعلبك، التي بدا مشهدها اليوم مؤلماً جدا.