في منتصف الطريق، يركن أحد جيران منزلي في الضاحية الجنوبيّة سيارته. يُحدّق في السماء لثوانٍ قليلة. يُحاول استخدام مهاراته التي اكتسبها في هذه الحرب، يُهيأ له أنه قادر على تحديد مسافة طائرة الاستطلاع من صوتها. كان يُريد الصعود لمنزله، في الطابق الأخير من المبنى، ليتفقده ويُخرج منه بعض الأغراض.مدينة صامتةالسيارة مركونة في منتصف الشارع. وهي محاولة خجولة ليؤكد لطائرة الاستطلاع أنه مواطن لبنانيّ، وزيارته الخاطفة تهدف للإطمئنان على منزله المهجور منذ أربعين يومًا، ولينقل بعض الأغطية والوسادات ويُغادر المنطقة على عجل.
الكهرباء مقطوعة. صاحب المولد الكهربائي ترك المنطقة، أطفأ مولداته التي لطالما سبب صوتها الأرق لسكان الحي، فتحول الشارع لمدينة أشباح خرساء. هكذا، باتت المنطقة غريبة عن أهلها، الظلام يلفّها في الليل، والصمت ينهش أحجارها في الصباح.
صعودًا نحو منزله، استعان بهاتفه الخلوي للإضاءة، ألقى نظراته خلسةً على الشقق السكنية في كل طابق. وضع بعض الأغطية وقارورة الغاز في صندوق السيارة وغادر بعد أن كتب رسالة نصيّة على تطبيق الواتس أب للمجموعة التي تضم جميع جيرانه: "غادرت الآن، لا يزال المبنى واقفًا، الشقق متصدعة قليلًا، رائحة الصواريخ كريهة، الزجاج على الأرض وهناك فرش اسفنجية تطايرت من إحدى الشقق، في بعض الطوابق أبواب الشقق السكنية خُلعت نتيجة عصف الغارات القوية، صلّحوا الأبواب لتتجنبوا السرقة"... وحددّ مكان وجود القفل الخاص بباب المبنى الحديد.بيوت غير صالحة للسكنأقصد المنطقة بشكل دائم، أحاول نقل الأغراض التي احتاجها مع اقتراب فصل الشتاء وتبدّل الطقس. مؤخرًا، جلت في المنزل لأتأمله فقط، حدّقت في الزوايا، لم أحمل أي من أغراضي رغم حاجتي الحالية للكثير منها. يبدو صعبًا التفريق بين اللوازم الضروريّة وتلك التي من الممكن أن أتخلى عنها. في منزلي، جميع الأشياء ضروريّة ومهمة، ولا يمكن الاستغناء عن أي منها.
خمسون يومًا خارج البيت. إنها المرة الأولى التي أمكث في مدينة بيروت بعيدةً عن منزلي. ولا تزال فرصة إيجاد منزل بديل حلم قد يصعب تحقيقه في القريب العاجل. ويبدو صعبًا التعايش مع روتين جديد بهذه القساوة.
يصف أحد أصحاب الشقق السكنية خارج حدود المدينة أن منطقة المنزل "آمنة". "الهدوء" هو زعيم هذه المنطقة، بحسب أقواله. ولجذب الزبائن أكثر، يقول أن المنزل مُطلّ على مناظر طبيعيّة، أي أنه مُزنّر ببعض الأشجار. وعوضًا عن سماع أصوات الصواريخ والطائرات الحربية، تُستبدل هنا بأصوات الطيور صباحًا ويُسمع نباح الكلاب ليلًا. إذن، إلى حدٍ ما، يمتلك صاحب الشقة مهارات "محدودة" لاصطياد الزبائن واقناعهم بأشياء تبعد عن الواقع مئات الكيلومترات، محاولًا إقناع الزبون أن المنزل في بقعة جغرافية تجهلها خرائط أفيخاي أدرعي.
على أي حال، إلتقيت والرجل لرؤية المنزل الخياليّ. في طريقنا للوصول، عاد للواقع قليلًا. واعترف فجأة، عن وجود مشكلة "صغيرة جدًا" في المنزل، قائلًا: "لا مصعد في المبنى". لا داعي للقلق، الشقة في الطابق الرابع. هذا يعني أن العائلة ستُمارس الرياضة يوميّا. حسنًا، حاولت اجتياز هذه المشكلة، وبعد دخولنا للمنزل، اعترف أيضًا بعدم توفر المياه بشكل دائم، إذ تنقطع لأيام قليلة. هذا يعني أنه عليّ شراء وتعبئة المياه وتصليح بعض الأنابيب. حينها، كل شيء سيكون على ما يُرام.
في كل الأحوال، حاولت تجاهل هذه المشكلة أيضًا. وأضاف: "ايجار هذه الشقة هو 800 دولار أميركي من دون أي خدمات، ويجب دفع ثلاثة أشهر سلفًا، إضافة إلى شهر تأمين، وعقد الايجار يجب أن يكون لثلاث سنوات، وفي حال قررت المغادرة، هناك بند جزائي يجب دفعه. يعني أنني بحاجة إلى دفع حوالى 4000 دولار لمنزل من دون مصعد كهربائي ومن دون مياه.
الخيار الثانيهاتفيًا، شرح أحد السماسرة أن الدفع سيكون مُسبقًا، وهناك عمولة خاصة لقاء أتعابه. المنزل يسع لشخصين فقط، مؤلف من غرفة واحدة ومطبخٍ وشرفة ضيقة. لكن، يمكن أن يسع لعائلة كاملة، وفقًا لمنظوره. أسئلة كثيرة طُرحت خلال حديث لا يتعدى الأربع دقائق، أسماء أفراد العائلة، مهنتهم، مكان إقامتهم السابق، أعمارهم، أشكالهم، ألوان البشرة، كاد أن ينهي الحديث بسؤالي عن لونهم المفضل...هذه الأسئلة لم تُطرح عبثًا، بل كادت أن تتوسع لمناقشة نتائج الانتخابات الأميركية، وقبيل إغلاق الخط، استرسل بالقول أن سعر الايجار الذي كان مطلوبًا، ليس صحيحًا، فتكلفة الإيجار ارتفعت، وزادت 150 دولار أميركي شهريًا، من دون أن أسأله عن السبب.
لا مشكلة، هناك خيارات أخرى. الشقة الثالثة لم تكن صالحة للسكن أصلاً، لكن مالكها اعتقد أنها فرصة ذهبية لا تتكرر كثيرًا، ايجارها 700 دولار أميركي. غرفتان بحاجة إلى طلاءٍ وتنظيف، المرحاض بحاجة لصيانه ولمد أنابيب المياه ولتصليح بعض الأمور في الصرف الصحي. في الغرفة المجاورة تتسرب المياه في فصل الشتاء. "ليست مشكلة كبيرة، يمكن وضع دلو صغير وتفريغ المياه منه كل يومٍ". حلّ مؤقت قدّمه صاحب الشقة خلال حديثنا.
يُعاني الخارجون من بيوتهم من أزمة ايجاد شقق سكنية بديلة ومؤقتة. وهناك خوف من أصحاب الشقق باستقطاب بعض "العائلات الحزبية" لمنطقتها، خوفًا من خطر الاغتيال والاستهداف من قبل العدو الإسرائيليّ وتعرض السكان للخطر. لذلك، تفرض الشروط التعجيزية، ويقابلها استغلال أصحاب الشقق السكنية هذه الظروف، لكونها فرصة استثنائية لكسب المال، خصوصًا في ظل حاجة مئات العائلات لشقق سكنية بعيدة عن أصوات الصواريخ والغارات الإسرائيليّة.
وها أنا ذا، أحاول منذ شهر ونيف، أفتش عن منزل صغير، يكون بالحد الأدنى قريبًا من مواصفات منزلي الذي تركته عنوةً. على الأقل، أن يكون صالحًا للسكن، وتتوفر فيه الأمور البديهية كالكهرباء والمياه. وأدرك جيدًا، أنه ما من خيارٍ سيكون شبيهًا ببيت قضيت فيه ما يُقارب الثلاث عقود. قد يتشابه الإسمنت بألوانه وأحجامه، لكن المؤكد أنه يختلف بدفئه.