تنكب بلديات لبنان منذ أسابيع على إعداد ميزانياتها العامة، لعام آخر من ولاية مجالسها الممدّدة، والتي يفترض أن تنتهي في شهر أيار المقبل، ما لم تحول ظروف الحرب الشاملة في مناطق عديدة من لبنان دون إجرائها مجدداً. إلا أن ميزانيات العام 2025 لا يبدو أنها ستأتي محمّلة بطموحات كبيرة، مثلما كان حالها منذ عام 2019.
قد لا ينفصل الظرف الإستثنائي الذي تفرضه تداعيات العدوان الإسرائيلي على البلديات، عن المسار الإنحداري في ماليات البلديات منذ انطلاق أزمة لبنان الاقتصادية. غير أن الحرب وحدها كفيلة بتبديد كل جهود البلديات التي أفضت خلال هذه المرحلة إلى التوفيق بين وارداتها ونفقاتها، ولو عبر إهمال جزء كبير من الأعمال المطلوبة منها، في مقابل تأمين الإنتظام بتوفير رواتب الموظفين ومستحقاتهم، والحفاظ على نظافة المدن والقرى ومعالجة نفاياتها.توازن البلدياتيشكل وضع الميزانية أحد الموجبات الرئيسية للمجالس البلدية التي عليها تصديقها وفقاً للمادة السابعة من قانون تحديد أصول محاسبة البلديات واتحاداتها، قبل نهاية شهر تشرين الثاني من كل عام، وتتقدم بها إلى وزارة الداخلية والبلديات.
وإذا كان العدوان الذي تسبب بهجرة مدن وحوّلها إلى أرض محروقة قد يعفي بلدياتها حكماً من هذا الموجب، فإن الميزانية تبدو أساسية في تحديد رؤية واضحة بالنسبة للبلديات التي استقبلت النازحين، بما يحافظ على توازنها المالي، وخصوصاً مع تفاقم الأعباء التي فرضها النزوح بالنسبة لتقديم بعض الخدمات الأساسية.
نجحت بعض البلديات بتحقيق هذا التوازن طيلة السنوات الخمس الأخيرة، فبقيت متماسكة ولو بالحد الأدنى، حتى بعد إنتهاء فترة ولايتها الرسمية، فيما فشل بعضها الآخر كلياً، فكان ذلك أحد أبرز الدوافع لإنحلال ما لا يقل عن 10 في المئة من عدد البلديات في نهاية تلك الولاية.
إلا أن البلديات تشرف حالياً على نهاية النصف الثاني من ولايتها الممدّدة مرتين، وهي منهكة بشكل كلي. وربما يكون ذلك سبباً لعدم توريطها بشكل مباشر في خطة الطوارئ المركزية الموضوعة لإيواء النازحين. ومع ذلك تجد البلديات نفسها في عين العاصفة، كما تقول مصادرها، وهي تتلقف تداعيات تنفيذ هذه الخطة التي تضعها عملياً على تماس مباشر مع تزايد الإحتياجات الخدماتية، وهذا بالإضافة إلى ما يفرضه هذا النزوح من أعباء معيشية وفي بعض الأحيان أمنية.
لكن إذا كانت فعالية عمل البلديات في العادة تقاس بحجم إمكاناتها من الناحية المادية، يمكن القول إن معظم بلديات لبنان ليست قادرة على حمل هذا العبء. والسلطة المركزية عاجزة عن تجاوز هذه المرحلة وقد أهملت حتى الآن الوعود التي قطعتها لتأمين سبل تمكين البلديات. فلم ينجح مجلس النواب واللجان النيابية المتخصّصة بعد مرور خمسة أشهر من سنة التمديد الثانية، من استكمال النقاشات حول اقتراح القانون الذي وضع لتأمين مقومات صمود البلديات وتحقيق التوازن في إدارتها. وقد شكا رؤساء بلديات عبر الـ"المدن" من التباطؤ حتى في تطبيق المراسيم المتعلقة بتسديد مستحقات البلديات من الصندوق البلدي المستقل.
علماً أنه للبلديات وفقا لعدد من رؤسائها الذين استطلعت "المدن" آراءهم، أموالاً مستحقة منذ العام 2022، وهي لا تصرف حتى الآن سوى على تسعيرة 1500 ليرة للدولار، ولا تحمل أي تعديل في قيمتها حتى بعد تدهور العملة اللبنانية، وتُسدّد كمتأخّرات عن الأعوام السابقة. وهذا ما يجعل هذه الأموال بلا قيمة بالنسبة لموازناتها المرصودة حالياً، مع أنها كانت قبل انهيار قيمة الليرة، تشكل عنصراً أساسياً من عناصر الدخل المتوفر للبلديات، إلى جانب رسوم القيم التأجيرية وتراخيص البناء، وغيرها من الرسوم الإستثمارية الناتجة عن الرخصة، وإلى الغرامات وتسوية المخالفات.عجز البلدياتلا يبدو أن قانون الموازنة العامة الذي أقر سنة 2024 زيادة بنحو 15 إلى 30 ضعفاً على رسوم القيم التأجيرية في المقابل، قد أعاد التوازن إلى الخلل في هذه الميزانية، خصوصاً أن عدداً كبيراً من المواطنين، لا يزال ممتنعاً عن تسديدها. كل ما يُسدد يكاد لا يغطي رواتب الموظفين، خصوصاً في البلديات الكبرى التي تلتزم بقرارات رفع الأجور المركزية.
وتشكّل هذه الحقوق للموظفين، بنوداً ثابتة في الموازنة إلى جانب نفقات المحروقات المطلوبة لتشغيل آليات لمّ النفايات ومستلزمات النظافة، ونفقات الكهرباء والإنارة العامة. وقد ارتفعت هذه الأجور والنفقات بشكل غير مواز مع واردات البلديات التي لا تزال تجبى بالعملة الوطنية.
انطلاقاً من هنا يشير رئيس بلدية زحلة- المعلقة وتعنايل، أسعد زغيب، إلى أن ميزانية العام 2025 لن تختلف عن موازنة العام 2024 في نفقاتها التي ستكون مخصصة لجمع النفايات ومعالجتها وتوفير رواتب الموظفين، مع الإستجابة لبعض الحاجات الطارئة. متحدثاً عن رواتب ومستحقات وتعويضات توازي بقيمتها 65 في المئة من ميزانية البلدية، هذا من دون احتساب الكلفة الإجمالية للحفاظ على نظافة المدينة، والتي ترفع نسبة الإنفاق المرتقبة إلى نحو 90 في المئة من حجم الموازنة، ما يحول حكماً دون تنفيذ أي عمل إنمائي آخر.
الأمر مشابه في قرى الشوف أيضاً حيث يشرح رئيس إتحاد بلديات الشوف الأعلى روجيه العشي إلى أن حجم رواتب الموظفين ومعالجة النفايات من ميزانية بلدية المختارة التي يرأسها يصل إلى 80 بالمئة. لافتاً إلى ما فرضه النزوح من زيادة في النفقات المخصصة للم النفايات، إذ أن بلدة كالمختارة كانت تحتاج لثلاث شاحنات للم نفاياتها، وقد إرتفعت هذه الحاجة إلى خمسة حالياً.
هذا في وقت تؤكد مصادر البلديات التي استطلعتها "المدن" أن معظمها لن يكون قادراً على الصمود أمام حجم الضرر الذي خلفته الحرب، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وتلفت إلى أن ميزانياتها لا تزال بعيدة عن الواقع بالنسبة لتأمين الواردات المطلوبة. ما يطرح النقاش مجدداً حول النظام الذي يحكم عمل هذه البلديات، والذي لا يزال يقف عائقاً أمام تطبيق اللامركزية الإدارية، رغم ما تحققه هذه اللامركزية من توافق ترجمه اتفاق الطائف. وهذا ما يفرغ البلديات وفقاً لرؤسائها من الصلاحيات الممنوحة لها، نتيجة للإرتياب الذي تعبّر عنه السلطة المركزية من البلديات، ودورها الخدماتي الذي يجعلها مرجعاُ أولاً بالنسبة للمواطنين، مع أن البلديات "شريك للدولة وليست منافساً لها" كما يقول العشي، وشراكتها لا بد أن تترجم لمصلحة المواطن، سواء أكان ذلك في الحرب أم في السلم.