في الرواية الأحدث للشاعر اللبناني عباس بيضون، ثمة شقاق واضح بين الدين والحضارة، ليس باعتبارهما ندَّين يتصارعان، بل كضدَّين يغلب التنافر بينهما على أي التقاء.
يتناول النص قصة شيخ لبناني شيعي، يعيش في حقبة الهيمنة العثمانية على مصر والحجاز والشام والعراق. تلقى العلم في الأخيرة وتزوج منها وعاش هناك لفترة قبل أن يعود إلى مسقط رأسه في قرية "جباع". ومن دون تأريخ واضح، توحي الأجواء الاجتماعية للرواية بأنها تدور في نهاية القرن الثامن عشر، خلال فترة تكون الهويات الوطنية وتنامي شعور الفرد بقوميته، في أعقاب فشل الحملة الفرنسية على مصر وهزيمة "الدين" (الجامع)، الذي يمثله رمزيًا السلطان العثماني، أمام الكفر، سواء كان جيش نابليون بونابرت أو الأسطول الإنكليزي الذي هزمه.
لكن الرواية لا تستهدف سرد حقبة زمنية، أو بيان واقع حال العائشين فيها، ولا واقع الدين الذي يؤطر حياتهم كذلك، وإنما تترصد هذا التحول الفردي من الانسحاق في بوتقة جموع المسلمين، إلى الشعور بالفردية، أو التحول من "عِمة" عالم الدين إلى "طربوش" الأفندي.ولعل لقب "الشيخ الأحمر" الذي أطلقه الشباب على الشيخ "عبد الحسين" بعد ما لمسوه فيه من ثورة على جمود الدين، واهتمام "عروبي"، واستقى بيضون منه اسم الرواية، هو أول الدلائل على ذلك.
علامة الحضارة
لا إشارة، كما أسلفنا، إلى سياقات تاريخية، لكن "الأحمر" كمفردة ارتبطت في الجزيرة العربية، وربما قبل ذلك التاريخ وبعده، بالجماعات التي تسعى لتأسيس أوطانها القائمة على انتمائها العربي، لا الإسلامي. في الوقت نفسه، لا يمكن عد الشيخ بطلًا للرواية، التي يبدو أنها من دون بطل، رغم أنها تعج بأسماء الشخصيات وأدوارهم، وإنما بطلتها تلك الفكرة، أو لنقل الاختبار الذي يضع عباس بيضون فيه شخصيتيه "عبد الحسين" و"آمنة".
يغرق "عبد الحسين" حتى أذنيه في زواج المتعة الذي يتيحه له مذهبه الشيعي تحت ستار عفة المطلّقات والأرامل، وليس هذا موضوع الرواية، إنما اختار الروائي ذلك الشكل من أشكال الإتاحة "الحلال" لينوب عن الدين في رحلة "البطل" -إن جاز عدّ عبد الحسين كذلك- إلى التحضر، الذي تمثله -للسخرية- النظافة، أو الاهتمام بالنظافة.
لعل من أبرز العبارات التي تربط الدين بالمُعاش، أن "النظافة من الإيمان". لكن عبد الحسين الذي عاف الاستحمام وكان يغتسل كل أسبوعين، رغم علاقاته النسائية المتكررة وما يستتبعها من "نجاسة" تستحق التطهر، يظهر عليه التحول والتغير عندما يعود "إلى البيت بحذاء جديد، أحاط بكلتا قدميه بعدما كانت العادة أن يمشي شبه حافٍ بنعل خفيف. المفاجئ هو أن الشيخ صار يستحم مرتين في الأسبوع، بعدما كان يؤخر حمّامه أسابيع. وأخذ يطالع كل يوم جريدة، وصار الكلام في السياسة مألوفًا في السهرات التي تتم في البيت".
والنظافة هي الإشارة ذاتها التي يستخدمها الروائي أيضًا في تعريف القارئ بالشخصية الثانية التي ستخوض اختبار التحضر، أو التحول من القروية إلى المدنية، أو من ركاب الدين الذي يبشر بالآخرة، إلى الحضارة التي تؤسس للحاضر. فيقول عندما يريد تقديم شخصية "آمنة": "كانت "عاصمة" آتية لشأن آخر، فهي لم تجد الصابونة في مكانها في المطبخ، وحدست فورًا أن "آمنة" أخذتها لتتبرج بها. كان الناس ينظفون وجوههم بالتراب؛ أما الصابون فهو تبرج لا يليق بأبناء الشيوخ، خاصة قطعة الصابون التي أخفتها "آمنة". الصابونة هذه لا يجرؤ والدها على استعمالها، فهي فواحة، وتبقى رائحتها على الوجه طوال اليوم، وقد تظل تفوح يومًا آخر".
"عاصمة" أيضًا هي التي ستلحظ على الرجال جميعهم، في مجلس الشيخ، رجال الحقبة الزمنية الجديدة التي قوامها شباب ثائر، أنهم "صاروا ينتعلون أحذية، من نوع حذاء الشيخ "عبد الحسين". انتبهت إلى أن جو الغرفة لم يعد عارمًا بروائح الرجال، ولم تعد لهؤلاء رائحة أصلًا، لم يعد لعرقهم أو أقدامهم ذلك النتن الذي كان من قبل علامة الرجولية. أحست أنهم يرقون تقريبًا ويلطفون مع الوقت. لم يحدث ذلك في يوم واحد، لكنه حين حدث بدا جديدًا، و"عاصمة"، التي كانت أقرب إلى الرجال، هي نفسها بدأت ترق وتلطف".
قتل الأخ
إن اختيار تنامي الاهتمام بـ"النظافة الشخصية" كإشارة لذلك التحول، لا يرتبط فقط بالسخرية من أحد ثوابت الدين، فأدبيات ما بعد ظهور الإسلام كانت تسخر من "نتن" عصر الجاهلية، لكنه إشارة على الاهتمام الفردي الذي صار يعتد باليومي والوجود فيه، لا الزهد في الحياة والانصراف عنها. "حذاؤه وجبته النظيفة حالا دون أن يبقى، فقد بدأوا يشتبهون بنظافته وأناقته، إلى فخامة لا ترضي الدين".
وهكذا، بعدما أهَّل بيضون شخصيتيه "عبد الحسين" و"آمنة" لذلك التحول الحضاري، فإنه وضعهما في اختبار الرواية الرئيس، الذي يتشكل عبر حكاية بسيطة، حين تحب آمنة ابن خالتها "عبد المجيد"، لكنه يصاب بداء في كبده ويموت شابًا، ثم يوصي بأن يتزوج أخوه منها بعد موته، فترفض آمنة، لا لأنها تبغض أخاه، وإنما لوعيها بالمفهوم الحضاري الإنساني للحب. تقول: "أليس هذا طبيعيًا وطبيعيًا جدًا... أن ينتقل الحب من أخ إلى أخ؟ ألم يكن هناك، في يوم، حب الإخوة؟ ولماذا انقطع هذا الحب؟ أليس فقط بسبب كونه سفاحًا؟ أليس قمة الحرام، والحب، أليس قمة حين يكون حرامًا؟ لا بد أن يعاود المسألة، لا بد أن يعود إليها. هي بالتأكيد الآن تفكّر مثله، إنها بالتأكيد تفكر بمتعة السفاح، بمتعة الخيانة، متعة الحرام. كل هذه العناصر التي تشكل الحب".
إن تلك العلاقة التي شكلت البشرية، بزواج أخ وأخت وتناسلهما، لم تعد مقبولة حضاريًا، وإن شرعها الدين رمزيًا في جواز زواج الأخ من زوجة أخيه المتوفى، أو دعمها المجتمع، فهي لم تعد سائغة أو مقبولة. "كانت سعيدة أنها لم تستجب لـ"عبد المجيد"، أنها لم تدمج بينه وبين "أيمن". كان يشبهه، كم هو قريب منه! لكنه أخوه وليس محرمًا في الدين، لكنه محرم في الواقع، بينها وبينه حاجز، بينها وبينه ما يشبه الحرام. إنه أخوه، أي إنه أخوها، وبينه وبينها ما يشبه ما بين الأخوين".
الاختبار نفسه سيخوضه الشيخ الأحمر عبد الحسين بعد أن تموت زوجته "خديجة" وتتهيأ أختها "عاصمة" أمامه كزوجة مناسبة، أنثى وربة منزل، لكنه، ورغم إقدامهما على تحقيق الزيجة، سيعود كل منهما أدراجه في النهاية، وسيتراجع كلاهما للسبب نفسه؛ تلك الزيجة الأخوية التي يرفضها التحضر.
وسيظهر ذلك الفارق بينه وبين ابنته، التي ستتمكن من تجاوز رمزية الأخ مع "أيمن" فيقتلانه على غرار قتل الأب. "كان على "آمنة" أن تتلقى، كل أسبوعين، رسالة من "أيمن". هذه الرسائل بدأت تتعافى. لم يعد الموضوع هو الوصية، لم يعد "عبد المجيد" في طوايا الكلام، ولم يعد على الأقل محوره. كان كل من الاثنين، ينسحب إلى نفسه ويضع هيكلًا لها (...) ضاعت الوصية، وضاع إرث "عبد المجيد" أو لم يكن له إرث، ولا وصية. ولقد بقي الوسام الذي مُنحه كضابط في الجيش العثماني معلقًا على قبره. (...) لكن "أيمن" (...) روى لها أنه تجرأ أخيرًا وقضى ليلة في سرير "عبد المجيد" بين شهقات أمه ولوم أبيه له. قال لها إنه لم يستطع أن يمنع دمعه عن أن يسيل. في آخر رسائله قال "أيمن" إن الوسام اختفى من على القبر، يمكن أن يكون، كما قال، قد طار".
اختبار النص الروائي
ولا تقتصؤ السخرية في الرواية على ذلك التصور المدهش الذي يستخدم ما عابه الإسلام على الجاهلية، ليكون عيب الحضارة على الدين، وإنما يتضح أيضًا في اختيار الروائي لأسماء شخصياته، التي تحمل القدر نفسه من السخرية. فهو، وإن كان يستخدم "عبد الحسين" لإشارة غير مباشرة للنبي محمد، فإنه يستخدم "خديجة" صراحة لتسمية زوجته، التي للمفارقة تموت وتتركه فيما لا يزال في كامل رجولته، ثم "آمنة" ابنته، وهو أيضًا اسم أمّ النبي، و"عبد المجيد" الذي سيموت/ يزول، ثم "أيمن" الذي يشير اسمه إلى الساعد، ثم للمفارقة سيصعد من الهامش إلى الصدارة.
وهكذا، ولذلك كله، ربما، يمكن عدّ رواية "الشيخ الأحمر" رواية تعتمد على الفكرة أكثر من اعتمادها على الشخصيات والدراما. فهي لا تملك شخصية فريدة سواء داخل المتن الروائي نفسه، أو عند مقارنتها بغيرها من الأعمال السردية العربية. وكثيرًا ما يتكرر السرد أو يدور لإبراز المعنى الواحد بأكثر من صورة، وهي أمور تطرح سؤالًا يضاف إلى سؤال الرواية الذكي وطرحها الساخر المفارق.
هل الرواية في سؤالها وحده، أم في سؤالها وعالمها؟
ربما تغوي الأفكار صاحبها، وحيث إن فكرة كتلك، مثل التنافر بين "الدين" و"الحضارة"، أو في قدرة الأخيرة على استيعاب الدين في حين يفشل هو في استيعابها، هي فكرة مغوية فعلًا. فإنها في كتاب يبتغي الفلسفة تستطيع أن تقوده من الدفة إلى الدفة، لكنها في رواية تخفق في قيادة عالمها، كما لا تقود فكرة وحيدة الحياة. حتى إذا فرغت الرواية من تلك الفكرة، لن يكون لعبد الحسين أو لحياته أو لسياقه الزمني ما يدهش أو يدعو للتفكير أو يترك أثرًا في المتلقي، وإن غيرت اسم الرواية بأي شخصية أخرى من شخوصها لن يتغير فيها شيء أو تكتسب بعدًا جديدًا.
ولعل ذلك التحول غير السلس، أو الانتقال الفجائي للمقال، الذي ربما انشغل باستعراض الفكرة أكثر من العالم الروائي، يشبه انتقال عباس بيضون بين شخصياته وعالمه الروائي الذي تبدو 130 صفحة من القطع المتوسط فضفاضة عليه وعلى شخوصه، بحيث لم يكن فيهم من الدهشة والثراء والطرافة بقدر ما احتملته الفكرة أو السؤال الروائي.