لشوقه إلى مقاعد الدراسة، لم يتردد جواد النازح من بلدته النبطية إلى قبعيت العكارية، في أن يرسم صورته وابنة عمه، يتقاسمان مقعد الدراسة. يحتاج الى هذه اللحظة، كما يحتاج إلى كل ما يعيد إلية طفولته، ويعينه على مجابهة الحياة. الطفل الخجول يحاول اخفاء رسمته خلف ظهره. تكشف والدته سره فيقول بعد الحاحها: "أنا صرت بصف الـKG3، رسمت حالي أنا وزهراء بنت عمي على الكرسي بالصف". يحتاج جواد كما الكثيرون غيره من النازحين، أطفالاً وكبار سن إلى وسائل تدفئة، وإلى الثياب والأغطية الصوفية، تقيهم من البرد القارس الذي بدأ فصله باكراً في عكار وجوارها.
احتياجات كثيرةهناك يحتاج النازحون إلى سبل عيش، وكهرباء وماء ومازوت للتدفئة وأغطية وثياب شتوية. باختصار يحتاجون إلى ما يعينهم على تمضية أيامهم خارج بلداتهم وقراهم التي هجروا منها بفعل اعتداءات إسرائيل.
تدخل مناطق عكار لاسيما تلك المرتفعة عن سطح البحر، فصل الشتاء باكراً، في ظل النزوح الذي استجدّ على قراها وبلداتها. بعدما استقبلت هذه المحافظة قرابة 70 ألف نازح، وفق أرقام لجنة إدارة الكوارث في المحافظة، نزحوا من مناطق الجنوب والبقاع وصور وضاحية بيروت الجنوبية والهرمل. لم يسكنوا العراء أو الخيم، كما في مناطق أخرى، بل أقاموا في مدارس تحولت إلى مراكز إيواء، وبينهم من استأجر منازل خاصة، لكن الكل يعاني من صعوبات ويحتاج إلى المساعدة.بدأ توافد النازحين إلى عكار اعتباراً من 17 أيلول الماضي، لحظة إعلان الحرب الإسرائيلية على لبنان. في أول أيام النزوح كانت المساعدات تتأمّن من الأهالي واللجان المحلية التي حاولت توفير الاحتياجات بشكل سريع لكل مركز إيواء. لكن ومع الوقت بدأت حركة النزوح تتوسّع، ومعها بدأ يتكشّف حجم الاحتياجات وضخامتها. النازحون سكنوا في كل القرى العكارية تقريبًا، ولكل قرية ومركز إيواء أوضاعه واحتياجاته.الجرد والبرد القارسفي بلدة مشمش في أعالي جرد عكار يسكن النازحون في المعهد والمدرسة الفنية. هنا عائلات وصلت إلى عكار لا تحمل مقومات الحياة، كان همها تأمين مأوى آمن من القصف. أما في بلدة فنيدق التي ترتفع عن سطح البحر أكثر من 1100م، هناك أكثر من 500 عائلة من النازحين تسكن البلدة، موزّعين في كل أحيائها وليس فيها مراكز إيواء.
في البلدات الجردية العالية يشكّل الشتاء هاجساً للنازح كما للمضيف. لجان الطوارئ التي تشكّلت من البلديات والمتطوعين والجمعيات، تؤمن الاحتياجات ضمن الحدود الممكنة، والأدوية يتم تأمينها بالتعاون مع جمعيات وهيئات صحية، لكن تبقى هناك احتياجات تفوق الامكانات خصوصاً في ظل تقديمات الدولة الشحيحية. صحيحٌ أن البطانيات والأغطية والأطعمة أصبحت تتأمّن بشكل أو بآخر إلا أن الحاجة إلى الأدوية ومعها وسائل التدفئة ومياه الاستحمام، تعدّ من أكثر الأمور إلحاحاً في هذه الفترة. أزمة التدفئة والمياه الساخنة وصلت إلى المعنيين. ووفق المعلومات التي حصلت عليها "المدن"، فأنّ لجنة الطوارئ الحكومية تدرس امكانية تأمين مازوت للمناطق التي يزيد ارتفاعها عن الـ 300 متر. ومع ذلك تبقى مشكلة المناطق التي تنخفض عن هذا الارتفاع. في مراكز الإيواء الجردية حيث البرد القارس ارتدى النازحون المعاطف الشتوية التي تأمنت لهم من لجان المساعدة، لكنّ ذلك وحده لا يكفي، في ظل الحاجة إلى تغطية الأرض بالسجاد وتأمين وسائل تدئفة مختلفة. تسخين الماء بأشعة الشمس وخلال جولتنا على عدد من مراكز الإيواء في عكار والمنية، رصدنا سلسة قصص مؤلمة تعكس خوف النازحين من الأيام المقبلة.سيّدات متقدمات في السن يتقاسمن علبة دواء (بانادول) واحدة، لعدة أيام، وأحد الشبان في مركز إيواء في المنية، لم يستحمّ منذ أسبوع لعدم وجود المياه الساخنة، فوضع عدداً من "غالونات"مياه الشرب قبالة الشمس لتسخن فيستطيع استخدامها للاستحمام. وحول واقع النزوح في مراكز الإيواء، أكد علي صلاح الدين، ناشط في لجنة إدارة الأزمة في بلدة فنيدق ورئيس جمعية "جيل الأمل"، السعي بالتعاون مع البلدية وعدد من الجمعيات إلى تأمين احتياجات النازحين المتعددة لاسيما مع غياب مساعدات الدولة. ويقول: "اليوم ثمة حاجة ماسّة إلى المدافئ والمازوت، فمناطقنا عالية ويبدأ موسم البرد باكراً فيها.. الدولة حتى الآن لم تؤمّن وسائل التدفئة للنازحين، في وقتٍ تفوق فيه تكاليف المازوت والتدفئة قدرات الأهالي والبلدية. والإخوة النازحون يعانون من شدّة البرد ونسعى بكل إمكاناتنا للتخفيف عنهم". هذا فضلاً عن صعوبة تأمين الكهرباء ودفع فواتير الاشتراك في مراكز الإيواء وهذه أعباء اضافية وضورية. في مراكز أخرى أُفدنا من أكثر من مسؤول عن مراكز إيواء في ببنين والمحمرة العكاريتين عن معاناة جديدة للنازحين برزت مع أول شتوة. فقد تسرب ماء الشتاء من أسقف وجدران بعض المدارس وتساقط فوق رؤوس النازحين الذين يحتاجون إلى ملابس شتوية، ومعونات غذائية بعدما تم تقليص حجم تلك التي كانت تقدمها بعض الجمعيات الأهلية.