جاءت قمّة دول البريكس هذا العام بحضور خمسة أعضاء جدد بصفة كاملة العضويّة ومنهم ثلاث دول عربيّة هي: السعودية ومصر والأمارات بالإضافة الى إيران وأثيوبيا، وقد عُقِدت القمّة هذه السنة في قازان في الاتّحاد الروسي في ظلّ الحروب والتوتّرات التي يعيشها العالم.
اللافت، أنّ البيان الختامي للقمة بصفحاته الثلاثة والأربعين قد تطرّق إلى جميع مشاكل العالم، وقدّمت مجموعة البريكس نفسها كمرجع عالميّ جديد لم تقتصر مناقشاته وبيانه على أشكال وسبل التعاون فيما بينها أو طرق تحفيز الاستثمار والتجارة وحلّ المشاكل التي تعني الدول الأعضاء، بل تبنّى الخطاب لهجة المرجعيّة، لتعبّر بصخب عن مشروعيّة تمثيليّة على الساحة الدوليّة متأتّية من حجم يتخطّى ال٤٥٪ من سكّان الأرض و٣٥٪ من الاقتصاد العالمي.
هذا الوزن أعطى القمّة شعوراً بالمسؤوليّة أمام المجازر التي تحصل في غزّة ولبنان وكانت عبارات الرفض والشجب واضحة، حيث طالب البيان الختامي للقمّة بوقف الحرب الدمويّة دون قيد أو شرط، وانتقد السلوك الإسرائيلي العدواني الهمجي، كما تناول جميع قضايا ومشاكل العالم من مناخ وبيئة واقتصاد وصحة، إضافة لطرح مسألة اعتماد عملة تداول بينيّة سوف تهزّ عرش الدولار وتكون بديلاً عنه.
إنّ بلورة تكتّل عالمي جديد، أتت في ظلّ هيمنة أمريكيّة على العالم تعربد من خلالها على الاقتصاد العالمي وتعمل في كثير من الحالات على المسّ بسيادة الدول ومحاولة إرضاخها عبر تجميد حساباتٍ وأرصدة، وأبرزها حين جمّدت لروسيا أموالاً بقيمة ٢٨٠ مليار دولار بحجّة منع استخدامها في الأعمال الحربيّة بأوكرانيا، وكانت إشارة صريحة لهذه العقوبات الناتجة عن أهواء صنّاع القرار الأمريكيّين في البند ١٠ من البيان الختامي لقمّة البريكس التي ورد فيها: “إنّنا نشعر بقلق عميق إزاء التأثير المدمّر للتدابير القسريّة الأُحاديّة الجانب غير القانونية، بما في ذلك العقوبات غير القانونيّة، على الاقتصاد العالمي والتجارة الدوليّة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة”؛ إضافة للبند ٢٢ من البيان نفسه.
أزاء هذا الوضع القائم، باتت تشعر العديد من الدول أنّ التفرّد الأمريكي بالهيمنة على العالم وإمساكها بأدواتٍ مثل (نظام سويفت والبنك الدولي وصندوق النقد وحصريّة امتلاك الدولار) أصبح يمس بجوهر السيادة الوطنيّة للدول، خاصّة أنّ أمريكا لا تقيم وزناً للمصالح القوميّة العليا لأيّ دولة، فتولّد عند الكثير من الدول وعلى رأسها دول البريكس -التي يتمحور اتّحادها على ثلاثةِ ركائزَ رئيسيّة هي: روسيا والصين والهند شعور بوجوب تشكيل حالة رفض في وجه التمادي الأمريكي، على أن يكوّن هذا الرفض حالة ثقلٍ في الساحة الدوليّة ترسم شكلاً جديداً من التوازن في العلاقات الدوليّة.
علماً أنّ التوازن المنشود يقوم على تفعيل وصون القانون الدولي عبر مؤسّساته، وإعادة الهيئات الأمميّة إلى حياديّتها ووقوفها إلى جانب القضايا العادلة، لأنّها باتت جميعها ممسوكة بقبضة واشنطن التي توظّفها وفق مصالحها العليا دون أيّ اعتبار لمصالح باقي الشعوب، وهذا ما نجد أثره في البيان الختامي لقمّة البريكس السادسة عشر والذي ورد في البند ٦ منه ما يلي: “نؤكّد من جديد التزامنا بالتعدّديّة ودعم القانون الدولي، بما في ذلك الأغراض والمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتّحدة باعتبارها حجر الزاوية الذي لا غنى عنه، والدور المركزي للأمم المتّحدة في النظام الدولي، حيث تتعاون الدول ذات السيادة للحفاظ على السلام والأمن الدوليّين، وتعزيز التنمية المستدامة، وضمان تعزيز وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسيّة للجميع، فضلاً عن التعاون القائم على التضامن والاحترام المتبادل والعدالة والمساواة…”
هذا المشهد على الساحة الدوليّة يُظهر تشكّل جبهة شرقيّة جنوبيّة في العالم، على غرار حلف دول عدم الانحياز من جهة (وهو تجمّع دولي إبّان الحرب الباردة لعدم الانحياز إلى أيّ من أقطاب الصراع، أُسِّست في العام ١٩٦١م على يد جمال عبد الناصر، ورئيس وزراء الهند جواهر ناهرو، والرئيس اليوغوسلافي جوزيف تيتو)، حيث أنّ هذا الحلف بجوهره يعبّر عن صون السيادة الوطنيّة، ورفض التبعيّة العمياء للغرب وأميركا، وعلى غرار بعض من ملامح حلف وارسو دون صبغته العسكريّة من جهة أخرى (معاهدة أمن مشترك وُقِّعَت في وارسو بين الاتّحاد السوفياتي وسبع جمهوريّات اشتراكيّة في العام ١٩٥٥ كردّ على حلف الناتو إبّان الحرب الباردة).
هذا التشكّل الجديد لا ينبغي النظر إليه كحدث عالمي عابر، بل يجب أن يُقرَأ ضمن سياق تحوّلات جديدة على الساحة الدوليّة، سوف تجني ثماره شعوب الأرض في السنوات القادمة، وسوف يكون بمثابة صحوة دوليّة ستعمل لوضع حدٍّ للأُحاديّة الأمريكيّة، وإنّ ما سوف يُسهِم في إنجاح مهمّة تلك الدول هو تعنّت الولايات المتّحدة ورفضها التعاطي مع دول العالم إلّا بصيغة السيّد والأتباع، وهذا الغرور الأمريكي سوف يواصل دفع دول العالم النامية إلى بناء جدار صدٍّ ورفض، لن تتوقّف أميركا عن لطم رأسها به إلى أن تتكسّر قرونها، وذلك أمام صلابة حقوق الشعوب بالعيش الحرّ والرغيد، واحترام إراداتها والنظر إليها كشعوبٍ حيّةٍ صاحبة كرامة ومصالح، بدلاً من اعتبارها مجرّد مستهلكين ودكاكين وتجّار، حيث نصّ البند ٥ من البيان الختامي على ما يلي: “نعتقد اعتقادًا راسخًا أنّ توسيع شراكة مجموعة البريكس مع البلدان الناشئة والنامية سيساهم بشكل أكبر في تعزيز روح التضامن والتعاون الدولي الحقيقي لصالح الجميع”.
وضمن هذا السياق لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أميركا تواجه مقاومة في الساحة الدوليّة على الصُعُد الاقتصاديّة والإعلاميّة والعسكريّة كافة، وبِتنا نتلمّس أنّ الولايات المتّحدة على الساحة الدوليّة بدأت تفقد الكثير من نجوميّتها وقدرتها على التأثير وفرض المعادلات كما كانت في السابق، ونستشهد بما حدث مؤخّراً، حيث أنّها لم تستطع إقامة تحالف بسيط لحماية السفن في البحر الأحمر، إضافة لتفوّق الاقتصاد الصيني عليها من حيث الحجم، ناهيك عن قدرة الشباب العربي على توظيف أدوات الإعلام على مواقع التواصل الاجتماعي بوجه آلة إعلامها نصرةً لقضيّة فلسطين، واستنهاضاً للرأي العامّ الغربي، وهذه جميعها شواهد تلخّص أن زمن التفرّد والأُحاديّة القطبيّة الأمريكيّة في سيادة العالم قد ولّى، وعلى شعوب العالم أن تُقدِم على تقويض حكوماتها، ومطالبتها بالتحرّر من هذا النير، وأن تنبري نصرة لقضاياها ومصالحها العليا في وجه الطغيان.