عند تحليل القوة العسكرية لحزب الله، نجد صعوبة في تصنيفه ضمن جماعات حرب الغوار التقليدية. فبقدراته، يُشبه جيشًا نظاميًا لدولة صغيرة، ويُعتبر اليوم أكبر قوة عسكرية غير نظامية في العالم. لكن هل أدى هذا التوسع الهائل في قدراته العسكرية إلى فشل أمني مكّن إسرائيل من اغتيال عدد كبير من قياداته العسكرية، وعلى رأسهم الأمين العام للحزب؟لفهم واقع حزب الله في الحرب الحالية بعد سلسلة الضربات القاسية التي تلقاها، نحتاج أولاً إلى وضع سياق تاريخي يُعزز هذا الفهم.تسرب التكنولوجيا العسكريةهناك صورة نمطية شائعة حول فترة توسع الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية وراء البحار، وهي أن الفجوة التكنولوجية كانت شاسعة بين الأسلحة النارية من جهة والسيوف والسكاكين من جهة أخرى. لكن هذا التصور ليس دقيقًا. في معظم تلك الحروب، كانت تقنيات الشعوب الأوروبية تتسرب دائمًا إلى الشعوب التي تقاتلها. فعلى سبيل المثال، حرب 1812 بين الولايات المتحدة وبريطانيا كانت نتيجة تزويد بريطانيا للسكان الأصليين بالأسلحة والذخائر. وبحلول عام 1811، أصبحت الغارات المسلحة التي شنتها القبائل الهندية على المستوطنين الأمريكيين في الشمال الغربي أمرًا شائعًا.لم يكن تسرب التكنولوجيا العسكرية من القوى الاستعمارية إلى جماعات "الغويريلا" أمرًا مستعصيًا عبر التاريخ. ففي منتصف القرن الماضي، استطاعت حركة ماو ماو في كينيا أن تبدأ مسيرتها بأسلحة بدائية مثل السكاكين والهراوات، لكنها سرعان ما استولت على أسلحة بريطانية متطورة.حرب الغويريلا والأيديولوجياظهر مصطلح "الغويريلا" كمصطلح يعبر عن حرب غير نظامية، وقد استخدم لأول مرة في العمليات العسكرية التي نفذها مقاتلون اسبان وبرتغاليين غير نظاميين بين عامي 1808 و 1814، حيث كان لهم دور حاسم في تحرير شبه الجزيرة الأيبيرية من الحملات الفرنسية. وقد أُطلق على المجموعات التي تعتمد تكتيكات الغويريلا أسماء متعددة مثل الأنصار والمتمردين، بينما أطلق الزعيم الصيني ماو تسي تونغ على عملياته العسكرية خلال تمرده الريفي الذي استمر 22 عامًا اسم "الحرب الثورية".حظيت الغويريلا الريفية باهتمام نظري كبير، حيث يُعتبر كتاب ماو تسي تونغ "حول حرب الغويريلا" (1937) وكتاب أرنستو تشي غيفارا "حرب الغويريلا" (1961) من أبرز مراجع القرن العشرين في هذا المجال. أما الغويريلا الحضرية، فقد ارتبطت بشكل كبير بالإرهاب الأحمر، مثل الألوية الحمراء الإيطالية والجيش الأحمر الياباني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وقد حافظت وحدات الغويريلا الحضرية على حجم صغير، وعملت ضمن هيكل تنظيمي خلوي، أظهر فاعلية أمنية على مدى عقود.كان البعد الأيديولوجي عاملاً رئيسيًا أيضًا، حيث تمكن السوفييت من تشكيل حركة سرية لمقاومة الاحتلال النازي تُعرف باسم "البارتيزان"، والتي نشطت في الأرياف والمدن. تشكلت هذه الحركة من بقايا وحدات الجيش الأحمر التي دمرتها القوات الألمانية، بالإضافة إلى ناشطي الحزب البلشفي وسكان محليين من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا. وقد تشكلت وحدات البارتيزان تحت شعار أيديولوجي بامتياز: "رودينا" (الأرض الأم).القاعدة المجتمعية الآمنةتعتبر العلاقة الوثيقة مع المجتمع المحلي عاملاً حاسمًا في نجاح حركات الغويريلا الريفية وقدرتها على التحول إلى ثورات. إذ يوفر وجود القاعدة المجتمعية الآمنة دعمًا حيويًا للمقاتلين، مما يتيح لهم ملاذًا للتعافي وتجديد القوى وتدريب مقاتلين جدد. في البيئات المتعاطفة مع القضية، تكون المجتمعات مستعدة لتحمل الأعباء المرتبطة بدعم المقاتلين، شرط ألا تتعرض لخطر وجودي.كانت تجربة أرنستو غيفارا في بوليفيا، وما انتهت إليه هناك، تجسيدًا واضحًا لفشل حركات الغويريلا حين تفتقر إلى قاعدة آمنة. فعلى مدار قرابة عام، لم يتمكن غيفارا من كسب تأييد أو تجنيد أي من السكان المحليين. وقد عبّر غيفارا عن إحباطه قائلاً: "الفلاحون لا يقدمون لنا أي مساعدة، بل تحولوا إلى مخبرين".اليوم، يجد حزب الله نفسه في مواجهة حرب غير متكافئة مع إسرائيل، على الرغم من مزاعمه السابقة بتحقيق توازن في القوة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل ما يسميه حزب الله "البيئة الحاضنة للمقاومة" هي بالفعل القاعدة المجتمعية الآمنة؟."من يعرف عدوه ويعرف نفسه"في التصنيفات التقليدية، يصعب وضع حزب الله في إطار حركة غويريلا ريفية أو حضرية بحتة. فهو يمثل مزيجًا من الاثنين وأكثر. يعتمد الحزب على قواعد شعبية واسعة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، ولكنه في الوقت ذاته، بدأ في استعداء شريحة كبيرة من اللبنانيين منذ عام 2005، ثم مع انخراطه في الحرب السورية ذات الطابع الفئوي. لقد تعاظمت قوته لدرجة أصبح فيها كيانًا فوق المجتمع اللبناني وفوق بيئته الداعمة.تلك البيئة الداعمة ليست القاعدة المجتمعية الآمنة بالمفهوم التقليدي. صحيح أنها مؤيدة، لكنها تفعل ذلك من منطلق اعتناق ثقافة المقاومة، وهي أيديولوجيا يمتزج فيها الوطني بالديني، وتُنتج خزانًا بشريًا لا ينضب من المقاتلين. اليوم، تجد هذه البيئة نفسها مُهجَّرة بالكامل تحت وطأة الضربات الإسرائيلية، التي تستهدف سكان الجنوب والبقاع والضاحية بشكل إبادي. لكن المسافة بين الحزب وبيئته، والمسافة الأكبر بينه وبين باقي اللبنانيين، كانت قائمة قبل هذا التهجير.لم تتمكن البيئة الداعمة من حماية حزب الله من الاختراقات الأمنية التي استهدفت أمينه العام ومعظم قياداته العسكرية، كما لم يستطع الحزب بدوره حماية تلك البيئة من القتل والتهجير. وقد أدت التوسعات الهائلة في قدرات الحزب العسكرية إلى ظهور ثغرات أمنية لم يتمكن من سدها حتى الآن. إن تحوله من حركة مقاومة مسلحة إلى شبه جيش نظامي جعل من المستحيل الحفاظ على السرية المطلوبة في بنيته العسكرية.ورغم أن الحزب لم يفقد السيطرة بالكامل على المعركة في الجبهة الجنوبية، حيث أظهر تميزًا في صد محاولات الدخول البري الإسرائيلي، إلا أن قدرته على إلحاق الأذى بإسرائيل باستخدام سلاح الصواريخ، وتحقيق الردع الذي كان يعول عليه، قد تراجعت بشكل ملحوظ. تكتيكات التحرش المطول على الحدود، التي اعتمدها لأكثر من عام في استهداف المواقع العسكرية الإسرائيلية، باتت أقل فعالية في مواجهة آلة القصف الجوي الإسرائيلي التي تستهدفه وتستهدف اللبنانيين بأسلوب إبادي، كما كان الحال في الحرب على غزة.اليوم، تتسع الفجوة التكنولوجية بين حزب الله وإسرائيل أكثر من أي وقت مضى في تاريخ حروب الغوار. كان بإمكان الحزب تضييق هذه الفجوة بالاستناد إلى القاعدة المجتمعية الآمنة، لو لم يتوسع عسكريًا بشكل مفرط منذ انخراطه في الحرب السورية. لقد فوت الحزب فرصة توجيه قدراته القتالية الهائلة لصالح الجيش الوطني والانضواء تحت مظلته. فهو اختار حركة "بارتيزانية" إقليمية: محور المقاومة.يقول سان تزو في كتابه "فن الحرب": "من يعرف عدوه ويعرف نفسه، لن يُهزم في مائة معركة". يبدو أن حزب الله، في سعيه الحثيث لمعرفة عدوه، قد غفل عن معرفة ذاته.