منذ بداية حرب طوفان الأقصى عوّدتنا الدبلوماسيّة الأمريكيّة أن ترتدي رداء السلام والخير والحياديّة الملطّخ بدماء دعمها المفتوح لإسرائيل، والمتسبّب في قتل أطفال غزّة ولبنان، كما عملت على تسويق نفسها كابحاً لجماح الجنون الإسرائيلي الذي يمكن له أن يتفلّت ويدمّر المدن ويجتاح كلّ شيء بأرضٍ محروقة، وعملت أيضاً على إقناعنا بمعادلة تقديم الرضوخ والتنازل تحت تهديد أنّ أثمان الحرب ستكون باهظة.
كلّ ذلك مصحوبٌ بلحن معزوفة أنّنا كأمريكيّين مكبّلين بالداخل الأمريكي وقوّة ضغط ونفوذ اللوبي الصهيوني واليهود وتأثيرهم ذي الثقل في مراكز صنع القرار، ثمّ حساسيّة مرحلة ما قبل الانتخابات.
بناءً على كلّ هذا، كان الأمريكي يطرح صِيَغ تقوم على القبول بشروط إسرائيل مقابل وقف الحرب المجنونة، وهذا سوف يكون مُرضِياً لجوقة غرور نتنياهو، الذي يكافح عبر السفك والدمار، لاستعادة شيء من صورة الردع التي فُقِدَت يوم فُقِأت عين إسرائيل صبيحة ٧-١٠-٢٠٢٣، ولم ترمّمها كلّ عمليّات التجميل والتزيين مهما بلغ قدرها.
أمّا اليوم وقد استنفذت إسرائيل كلّ ما يمكن أن تهدّد به وفشلت جميع جهودها بأن تحصل على أيّ مكسب بائن في الميدان لترميه على طاولة التفاوض وتجني من جرّائه مكاسب في السياسة، جاءت أميركا عبر مبعوثها هوكشتاين ليلملم إخفاقات إسرائيل في الميدان وعجزها عن تحقيق أيّ هدف معلن خلال سنة وشهر من يوم معركة الطوفان، إضافةً الى عجزها عن فرض آخر ورقة راهنت عليها في الدخول البري لجنوب لبنان بغرض تثبيت معادلة الانسحاب من الجنوب مقابل فرض منطقة آمنة تؤمّن لشمال إسرائيل الأمن والاستقرار، وإنّ لملمة تلك الإخفاقات من قبل أميركا جاءت في وقتٍ قد سُفِكَ ما سُفِكَ ودُمِّرَ ما دُمِّر وقُطِّعَت أوصال الأبرياء، وخسرت فيه قوى المقاومة ومن ورائها شعب فلسطين ولبنان أقصى ما يمكن أن تخسره وتسدّده كفاتورة للحرب.
وفي خضمّ هذا المشهد، وبعدما دُفِعَت الأثمان، وبات الإسرائيلي مكبّل بانسداد أفقه بتحقيق أيّ انتصار، كما استنفذ كلّ أوراق الضغط، يريد الأمريكي الآن أن يعرض علينا المقايضة بالوهم ووقف العمليّة البرّيّة التي قُطِّعَت بها أوصال وأطراف الفِرق المشاركة، ولواء غولاني أصبح بلا رأس حربة حيث أنّ وحدة النُخبة فيه (إيغور) قد شُلّت بسقوط أغلب أفرادها بين قتيل وجريح، لذا فإنّ محاولة أميركا أن تقلب السحر على الساحر وتجعل من عقدة العدوّ المستعصية وكأنّها عقدة لبنان، ينبغي أن تتيقّن أنّ لبنان الرسمي والشعبي قد أدرك أنّ خسارته قد وقعت وليس لديه أثمن ممّا قدّم، ومن لم يبع ويسلم قبل سداد الفاتورة ليس من مصلحته التسليم وهو في مرحلة تعظيم ثمن البيع، فلبنان يعتبر أنّه دفع ثمن الحرب وعلى العدوّ اليوم أن يدفع هو ثمن وقف إطلاق النار.
المعادلة اليوم باتت دمار مدننا يقابله قصف مدنكم، التهجير يقابله التهجير مع فارق أن شعبنا مداه سوريا والعراق وكلّ الوطن العربي أمّا مدى نزوحكم بات محدوداً ومكبّلاً ببقعة جغرافيّة متوتّرة من كلّ جوانبها، أمّا بالنسبة لخرق السيادة الجويّة فقد باتت المسيّرات تدخل غرفة نوم نتنياهو، والصواريخ تُمطِر كلّ فلسطين المحتلّة، ومن ناحية أخرى فإنّ جيشاً جرّاراً يتقهقر على تخوم قرى جنوب لبنان، ولم يستطع تثبيت نفسه في شبرٍ من الأرض ليرميه في وجه الأمريكي كمكسب ميداني يستطيع أن يقرّشه له في السياسة، ممّا حول هذا الجيش إلى أضحوكة أمام العالم، وعليهم أن يسدّدوا هم والأمريكي ثمن وقف الحرب من ماء وجههم، وإلّا فإنّ كثرة تعنّت نتنياهو في تحقيق مكاسب تكتيكيّة مرحليّة سوف يجبره على تسديد أثمان باهظة في خسارته الاستراتيجيّة.
فليبقى هتلر العصر على تعنّته بدخول ستالين غراد، ولتتحلّى جبهة الصمود بالصبر الاستراتيجي، وشواهد التاريخ تخبرنا من المُنهَزِم.
موقع سفير الشمال الإلكتروني