دَخَلَ جنوب لبنان منذ نحو شهر، مرحلة حرجة جداً مع توسيع العدوّ الإسرائيلي حربه على لبنان. ومن جانب اقتصادي، انتقل الاقتصاد الجنوبي من سياق الخسائر الجزئية المحصورة بالمناطق المحاذية للحدود مع فلسطين، إلى سياق الخسائر العامة وصولاً إلى حدّ اعتبار أن النشاط الاقتصادي في الجنوب بات شبه معدوم. ومع خروج الشريحة الأكبر من سكّان الجنوب باتجاه مناطق أكثر أماناً، بات السؤال مطروحاً حول ما تبقّى من اقتصاد في الجنوب.حسبة صور مغلقة والديون تتراكممع بداية التصعيد الإسرائيلي في 23 أيلول الماضي، واستمرار الحرب إلى تشرين الثاني الجاري، أُقفِلَ الموسم السياحي في مدينة صور على عجل ولم يبقَ في محيطها سوى بعض النشاط الزراعي الذي بدأ يسجِّل سريعاً أولى خسائره، سواء في موسم الزيتون أو موسم الحمضيات والموز، ويضاف هذا الموسم إلى موسم الزيتون والتبغ الذي خسره مزارعو القرى الحدودية مع انطلاق الحرب في تشرين الأول 2023.
ومع خروج الجنوبيين تحت وطأة الغارات الإسرائيلية، انطلق عَدَّاد الخسائر في الموسم الزراعي. فسوق الخضار في صور المعروف بـ"الحِسْبة" لم يعد محطّة آمنة للمزارعين والتجّار. ووفق ما يقوله أحد تجّار الحسبة في صور، طلال دلباني، فإن "الحسبة أغلقت أبوابها مع اشتداد العدوان". ويشير دلباني في حديث لـ"المدن" إلى أنه لم يعد هناك نشاط زراعي في منطقة صور "وبِتنا (المزارعين والتجّار) نطمئن على بعضنا بالاتصال، فالجميع غادَر المنطقة".خسارة المواسم تعني بحسب أحد المزارعين، الذي فَضَّلَ عدم الكشف عن اسمه "مراكمة الديون للتجّار وشركات توريد المواد والمستلزمات الزراعية". ويؤكّد المزارع في حديث لـ"المدن"، أن الخسائر "لن تنحصر في عدم قطاف الموسم، بل ستمتد إلى ما بعد الحرب لأن التلوّث بالمواد السامة جرّاء القصف الإسرائيلي، لَوَّثَ الأرض والشجَّر".وفي استعراض سريع للمشهد الزراعي، يوضح المزارِع أنه "في مثل هذه الأوقات من العام، يُفتَرَض بأن يكون هناك كميات كبيرة من الحمضيات والموز في السوق، لكن في ظل الحرب، فإن سهول جنوب مدينة صور، من القلَيلة، دير قانون رأس العين، الناقورة، المنصوري، المعلّية... خارج المعادلة، إذ يستحيل الوصول إليها والتحرّك داخلها. أما الحركة في سهول شمال مدينة صور، وصولاً إلى سهول عدلون، فلا تعطي السوق الكميات المعهودة. فما يصل للسوق من هذه السهول، يأتي بعد مخاطَرة المزارعين بقطاف ما أمكَنَهم على عَجَل وبَيعِه في بأي ثمن كان، فقط لتأمين الكلفة وبعض الأرباح". وعلى سبيل المثال، فإن "كيلو الموز يباع في السوق اليوم بين 30 و40 ألف ليرة، في حين كان يفترض بالسعر أن يكون أعلى في مثل هذا الوقت من الموسم، وتكون حركة التوضيب أعلى وكذلك التصدير. وتساهم الخدمات الإضافية برفع السعر، فالموز يحتاج لمزيد من الريّ، بين مرّتين أو ثلاث أسبوعياً، لكن في ظل الحرب، لا وقت لدى المزارع للريّ وفق المطلوب، وهذا يؤثِّر على جودة الإنتاج وكميّته، ويؤدّي إلى تلف الكثير من الإنتاج".أزمة الإنتاج والتصريف في السوق، تضاف إلى تراكم الديون "فالمزارعون سلّموا بعض إنتاجهم للتجار في الحسبة، وتجّار المواد الزراعية والأسمدة باعوا المواد للمزارعين على أمل سداد الديون بعد بيع محاصيلهم، وعلى الوعد نفسه، استَنَدَ تجّار المواد الزراعية لشراء المواد من الشركات. ومع تعطُّل دورة الإنتاج والتصريف، تعطَّلَت عملية إيفاء الديون، ودَخَلَ الجميع في دوامة ديون وخسائر ستتراكم مع طول فترة الحرب".في ظل هذا الواقع، فإن النشاط الاقتصادي الذي تعيشه منطقة صور، يقتصر على بعض المحال التي تفتح أبوابها وفق توقيت اشتداد القصف أو انحساره. وفي مدينة صور، القلق من محال الخضار والمواد الغذائية لا تزال تعمل بما يتوفَّر لها من بضائع يُنتِجها المزارعون أو يؤتى بها من مدينة صيدا حين تكون وتيرة القصف هادئة وتسمح بتحرّك السيارات سريعاً نحو صيدا والعودة إلى صور.فرحةٌ لم تدم طويلاًحركة المطاعم والمقاهي لم تكن أفضل حالاً من حركة القطاع الزراعي، بل أصعب. فأقفلت المطاعم على خسائر مادية ترتفع أو تنخفض قياساً لنجاة المحلّ من القصف أو استهدافه. فكلفة المعدّات ليست ضئيلة، وتضرّرها أو استهدافها بالقصف المباشِر، يعني ترتيب خسائر إضافية لِما يسجِّله التوقُّف عن العمل.
بالنسبة إلى الشاب كريم صالح، فإن ثقل تجربة الحرب والنزوح أصبحَ مضاعَفاً مع اضطراره للهرب بعد تجربة افتتاح مطعم لم تتجاوز الثلاثة أشهر. واللافت للنظر في تجربة صالح، أنه أتى من القارة الإفريقية، وتحديداً من دولة "مالي" ليفتتح مطعماً في بلدة كفررمان المحاذية لمدينة النبطية التي خسرت نشاطها بفعل تدمير سوقها التجاري.وعن التجربة، يقول صالح لـ"المدن"، إن فكرة المطعم بدأت بالتبلوُر صدفة "بفعل تشجيع من الأقارب والأصدقاء خلال زيارة إلى لبنان قبل شهرين من اندلاع الحرب في غزة". والخبرة التي راكمها صالح في هذا المجال من خلال عمله في قطاع المطاعم في مالي، بالإضافة إلى إصرار الأقارب والأصدقاء، وبعاطفة وطنية شدّته للبقاء في لبنان، جاء قرار افتتاح المطعم "وبمساعدة مالية من الأصدقاء وبعض القروض، افتُتِحَ المطعم في حزيران 2024 بتكلفة تقارب الـ35 ألف دولار".انطلقَ العمل بالمطعم بكثير من النشاط والرضى بالنتائج المحَقَّقَة في البداية "ولم تكن الحرب في غزة أو في لبنان عائقاً أمام افتتاح المطعم، إذ كنّا نظن أن مستوى الضربات سيبقى ضمن ما يُسمّى بقواعد الاشتباك. لكن في 23 أيلول كان قرار الإقفال والخروج السريع من المنطقة، لتبدأ رحلة البحث عن تجربة عمل جديد تتوافق مع النزوح إلى منطقة عانوت في قضاء الشوف".يرفض صالح حتى اللحظة، ترك لبنان والعودة إلى مالي أو المغادرة إلى دولة أخرى، وخياره الحالي هو "استئجار شاحنة طعام Food Truck والعمل عليها لكسب بعض المال لتغطية المصاريف والشعور بأننا بشر ننتج شيئاً ما. لكن حتى اللحظة الخيارات ضيّقة وكلفة الإيجارات للشاحنات التي وجدتها، مرتفع جداً".سوق صيدا يُحتَضَرالاتجاه نحو مدينة صيدا يظهر بعض المؤشّرات على وجود حركة اقتصادية، لكنها ليست بالمستوى المطلوب. فالوضع في المدينة "سيّء جداً"، على حدّ توصيف رئيس جمعية تجار صيدا علي الشريف، الذي يؤكّد في حديث لـ"المدن"، إن هذا الوضع لم يبدأ مع خروج أهل الجنوب من منازلهم في 23 أيلول "فمشكلة حركة السوق التجاري في المدينة بدأت تدريجياً منذ تموز 2024 إذ تراجعت الحركة بنحو 30 بالمئة مقارنة مع تموز 2023. واستمر التراجع إلى نحو 60 بالمئة في شهر آب وصولاً إلى 90 بالمئة في أيلول 2024. ومع الوصول إلى 23 أيلول وما حصل من تصعيد ونزوح، بات الوضع في مدينة صيدا أصعب، والسوق يُحتَضَر".
شهدت المدينة ومحيطها حركة نزوح كثيفة، لكنها لم تُتَرجَم في النشاط الاقتصادي "لأن ظروف النازحين المادية سيئة ولا تسمح لهم بتَرَف الشراء من السوق التجاري. وأغلب المشتريات هي الأمور الضرورية جداً، ويتّجه النازحون نحو المحال الشعبية". ويلفت الشريف النظر إلى أن "الطبقة الاجتماعية التي بقيت في صيدا ومحيطها هي الطبقة الفقيرة، في حين أن مَن يملك المال، خَرَجَ نحو شمال الأوّلي، أي ابتعدَ عن مدينة صيدا".وكخلاصة للوضع، فإن حالة الاحتضار دفعت مستأجري المحال في السوق "إلى الطلب من جمعية التجّار التوسّط لدى أصحاب المحال وأصحاب مولّدات الكهرباء لتأجيل تحصيل الإيجارات والفواتير، لكن ماذا إذا استمرّ الوضع على حاله لشهر أو شهرين إضافيين؟، حينها ستحلّ الكارثة الحقيقية".