قبيحٌ هو وجه اليباب الذي يلف الضاحيّة. رماديٌ باهت، أسودٌ فاحم، مُغبّرٌ امّحيت ملامحه.. مُرعبٌ هو وجه الخراب الذي يغمر الحارات والزواريب والأسواق والعمارات، المتكدّسة والمتراصة في غابةٍ إسمنتيّة مضغوطة عند حافة المدينة. مهيبٌ هو البتر الذي تعيشه المنطقة المنكوبة – الزئبقيّة هذه، بهامشها الضيق والمُحتقن، وكأنّها تدفع فاتورة حياتها الشقيّة دفعةً واحدة وبنفسٍ واحد لا ينقطع.
كابوسيّة التجوّال في الضاحيّة الجنوبيّة اليوم، وبعد شهرٍ ونيف على نكبتها المستفحلّة والموصولة كل ليلة، لا يعدو سوى كونه محاولةٌ مستميتة لقراءة وجه المنطقة المشوّه بغلاظة. بل واستدراك أن هذه المنطقة الّتي كانت مستودعًا وملاذًا لأبناء الأطراف والجلدة الواحدة، قد أضحت ساحة حربٍ قابلة لأن تصدق فيها كل الروايات المُرعبة.الضاحية المنكوبة وعودة الغاراتفجر اليوم الجمعة، عادت الغارات على الضاحيّة الجنوبيّة لبيروت، مع إنذارات جديدة وجهها المتحدث باسم الجيش الإسرائيليّ، بعد انقطاع دام أيام، بالتزامن مع المساعي الأميركيّة الّتي اتسمت بنوعٍ من الجديّة لإبرام اتفاقيّة إسرائيليّة – لبنانيّة لوقف إطلاق النار. وما إن بدأ يتبدى تعثّر المفاوضات كما هو الحال في غضون الشهر الأخير، حتّى شنّ سلاح الجوّ الإسرائيليّ نحو السّاعة الثالثة فجرًا، وبعد نحو الأسبوع من الهدوء الحذر سلسلةً من الغارات الجويّة استهدفت أحياءً واسعة في برج البراجنة – الرويس وحارة حريك وطريق المطار القديم، فضلًا عن الحدث. وظهرت مقاطع مصوّرة تُبين حركة نزوح كثيفة لأشخاص يخلون منازلهم في محيط جسر المطار. وأفادت التقارير الأوليّة عن الـ 14 غارة الّتي شنتها المقاتلات الحربيّة، قد تسببت بحجم دمارٍ هائل حيث سُويت عشرات المباني بالأرض.
وفيما لم ينته بعد سكّان الضاحيّة، من التقاط أنفاسهم من سلسلة الغارات العنيفة المستمرة منذ نحو الشهر، هم الذين عادوا بأعدادٍ لا يُستهان بها إلى الضاحيّة لتفقد منازلهم وأرزاقهم، بل وجنح آخرون للعودة إلى منازلهم والاستقرار فيها، أكان بسبب الارتفاع الجنوبيّ في أسعار الإيجارات أو طمعًا بالعودة إلى حياتهم الطبيعيّة، فإن حركة نزوح جديدة قد لوحظت بعد غارات أمس من الضاحية ومحيطها.
ومع تجدّد الغارات، بدأت التساؤلات حول دلالات عودتها بالتزامن مع انتهاء زيارة الموفد الرئاسيّ الأميركيّ آموس هوكشتاين لإسرائيل، وتوافد أنباء عن إحجام الأخير على زيارة بيروت كما كان متوقعًا بعد تل أبيب. فيما ربط البعض عودته، بتوّعد الجيش الإسرائيليّ بالانتقام من حزب الله بسبب الهجمات القاتلة على إسرائيل، أمس، والّتي أدّت إلى مقتل 7 أشخاص، وقال مسؤولون إن أربعة منهم هم عمال تايلانديين وإسرائيليّ واحد قتلوا بنيران صاروخيّة في المطلة قرب الحدود اللّبنانيّة، في حين قتلت ضربة أخرى بالقرب من مدينة حيفا الشماليّة شخصين، بحسب الجيش الإسرائيليّ.الدمار في الضاحيّةوجالت "المدن" في الضاحيّة الجنوبيّة لبيروت في الأيام القليلة الماضيّة، وعاينت آثار الغارات التّي أدّت إلى دمارٍ فاق، وبحسب التقديرات، الدمار الذي شهدته مناطق عدّة في الضاحيّة في العام 2006. ذلك، مع دخول أحياءٍ وبلديات جديدة إلى قائمة الاستهداف المباشر والعنيف، كالذي شهدته منطقة المريجة والليلكي وتحويطة الغدير ومحيط الجامعة اللّبنانيّة – فرع الحدث، وبرج البراجنة ومنطقة الشويفات.
ويتبين من المشاهدات الميدانيّة، أن الغارات تستهدف عادةً المباني المُطلة على الطرقات الأساسيّة والأوتسترادات فضلًا عن الطرقات الفرعيّة الّتي تربط المناطق والأحياء المتداخلة ببعضها، الّتي انقطع جزءٌ يسير منها جاعلًا كل منطقة مبتورة عن المنطقة الّتي بمحاذاتها، وهذا ما يتبين أكثر في منطقة المريجة والليلكي، حيث سُدّت كل المنافذ وبقيت الجامعة اللّبنانيّة الّتي تشهد تعزيزات عسكريّة، المنفذ الوحيد للدخول إلى المحلتين. وعرقل الركام والحديد المتناثر في الشوارع حركة المرور، وجعل التنقل شبه مستحيل في العديد من الأحياء، بينما تغصّ الطرقات بسيارات محترقة ومدمرة، فيما لم تقتصر الغارات الإسرائيليّة على استهداف المنازل السكنيّة، بل طالت البنية التحتية بشكل واسع، فقد تضررت شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، ودُمرت العديد من المتاجر والمؤسسات المدنية التي كان أصحابها يعتمدون عليها لكسب رزقهم.لا احصاءات شاملةأما عن حجم الأضرار والدمار، وإن كان من المُبكر وضع إحصاء شامل، أكان لصعوبة وصول فرق المسح أو بسبب كثافة الغارات وتجدّدها، فإن التقديرات الأوليّة التي يشير إليها الباحث في الدوليّة للمعلومات، محمد شمس الدين، قُدرت قبل ليلة الغارات الأخيرة بـ 5000 آلاف عقار دُمر كليًّا (مبانٍ وعمارات ومراكز)، وتضرّر أكثر من 17 ألف وحدة سكنيّة. فيما قُدّر أعداد النازحين من الضاحيّة بنحو الـ 600 ألف شخص، من المواطنين والسكّان من سائر الجنسيات.
ويُقدّر المراقبون، بأن أكثر المناطق تضرّرًا، هي الحدث المريجة والليلكي، ومن بعدها حارة حريك بمختلف مناطقها وثمّ برج البراجنة.