رغم حياة الشاعر الفرنسي آرثور رامبو القصيرة، اذ مات في السابعة والثلاثين من عمره العام 1891، يصاب المرء بالدهشة حين يتأمل الكمّ الهائل من الدراسات والأبحاث والنصوص والنظريات، التي تناولت وتتناول ظاهرته التي صنفت في خانة "الأسطورة"، إلى حدّ أن الباحث الفرنسي رينيه إيتامبل وضع كتاباً في أربعة مجلّدات بعنوان "أساطير رامبو"، يوضح أن بعض المؤرّخين والكتّاب حين يكتبون عن رامبو إنما يكتبون عن أنفسهم ورغباتهم، وعمّا يطلبون من رامبو أن يكونه أولاً وأخيراً. وهنا، لا يعود غريباً أن يلاحظ الباحث الفرنسي، أن الكاثوليكي بول كلوديل، هو الذي اكتشف كاثوليكية رامبو، والسوريالي أندريه بريتون هو الذي تحدّث عن سوريالية رامبو وكتاباته التلقائية. فيما اعتبره الشيوعيون بلشفياً أحمر ونظيرَ ماركس الشعريّ ومشاركاً في كومونة باريس... وكانت شبيبة أيار 1968 في باريس قد أعادت اكتشافه لتتبنى عبارته الأشهر "تغيير الحياة" فتصبح على كل شفة ولسان في التظاهرات الاحتجاجية.
والآن، يكتب الديبلوماسي والم،تخصص في العالم العربي، لويس بلان أو يقول عن رامبو طبقاً لما استنتجه إيتامبل، بمعنى كلامه عن نفسه ورغبته في الشاعر الفرنسي وما يجب يكون. ففي مقابلة مع الروائي اليمني، علي المقري، يعود بلان إلى موضوع لطالما شغل الباحثين منذ عشرات السنين، وأصبح نوعاً من الفانتازم والإكزوتيك، وضرباً من الإثارة المستعادة. يشير بلان إلى أن رامبو "اعتنق الإسلام" بعدما استقر في عدن العام 1880، لأنه تزوج امرأة حبشية مسلمة وكان دائماً يحمل كتاب القرآن في سرج حصانه. فير أن بلان يقول أيضاً: "لا شيء مؤكداً بصورة قطعية لكن القارئ الذي يعرف هذا المجتمع يدرك إلى أي مدى كان مندمجاً فيه، فهو عاش في بيئة مسلمة من الضروري التأقلم معها". وعمل بلان بحثاً عن حياة رامبو في عدن، ووجد أنه ذكر مرة في رسالة إلى أهله أنه يمضي حياته وكأن كلّ شيء "مكتوب" أو مقدَّر، كما يقول المسلمون. إلى جانب طبعاً طلبه لنسخة من القرآن وقوله مرة "الله أكبر"، فاستنتج من خلال سيرة حياته أنه أسلم. فهو تزوج امرأة مسلمة وهذا لا يحدث إلا إذا كان مسلماً بحسب القوانين الإسلامية. كلام الباحث الفرنسي بدا قائماً على الافتراض والتخمين لا أكثر، وربما إثارة الزوابع الثقافية والقيل والقال. يقول الشاعر والناقد شربل داغر، في دردشة مع "المدن": "ما أعرفه ووارد في مراسلات أخته خصوصاً، هو أن رامبو في فراش الموت، كان يخلط بين وجه اخته ووجه جامي، خادمه ورفيق عدد من رحلاته". يضيف: "الكلام عن زواج رامبو محض خيال، خصوصاً أنه كتب لأمه وأخته غير مرة أنه يتمنى الزواج من دون ورود أي معلومة في مراسلاتهم عن أنه تزوج أو عازم على الزواج". كتب رامبو إلى أخته إيزابيل في أيامه الأخيرة رسالة معنونة: "مرسيليا، 10 تمّوز-يوليو 1891... أستعيد المشي على العكّازات، أيّ ضجر! أيّ تعب! أيّ حزن حين تذهب بي أفكاري إلى أسفاري القديمة! كم كنتُ نشيطاً منذ خمسة شهور فقط! أين هي الجولات في الجبال والنزهات والصحارى والأنهار والبحار؟ وفي الوقت الحاضر، لا شيء غير حياة المُقعَد! صرتُ أعرف أن العكّازات والسيقان الخشبية والميكانيكية ليست سوى مجموعة من الدعابات، وأننا لا يمكن أن نتوصّل بها إلا أن نجرّ أقدامنا بشكل بائس، من دون أن نقوى على فعل شيء. هذه حالي، أنا الذي كنتُ اتّخذتُ قراري بالعودة إلى فرنسا في هذا الصيف للزواج! وداعًا للزواج، وداعًا للعائلة، وداعًا للمستقبل! حياتي مضت، ولم أعد غير قرمة خشبية جامدة".وليس جديداً الحديث عن إسلام رامبو أو زواجه، وهو من ضمن الأساطير الكثيرة التي تحاك حول الشاعر الفرنسي. أدونيس كتب في مجلة "مواقف" (العدد 57 في 1 يناير 1989) مقالة بعنوان "رامبو، مشرقياً صوفياً"، ونشرها في كتابه "الصوفية والسوريالية"، ووصل إلى نتيجة بأن "خصائص مشتركة كثيرة بين رامبو والصوفية تسمح لنا بأن نسمّيه صوفيّاً".ويتساءل الدكتور مسعود عشوش فى كتابه "عدن فى كتابات الرحالة الفرنسيين": "هل أسلم رامبو"؟ ويتوقع أن ذلك قد حدث، معتمداً على قصة أن القسيس رفض إعطاء رامبو القربان المقدس، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. كتبت أخته إيزابيل بأنها كانت تأتيه بالقس فيرفض بقاءه إلى جانبه، وعندما حضره الموت اضطرت العائلة إلى إحضار القس، الذي خرج من غرفة رامبو كالمضروب على رأسه، وهو يحكي لعائلة رامبو قائلاً: هذا الشخص لم يكن يسمعني، بل كان يتمتم بكلمات غريبة، كان يقول: "الله كريم.. الله كريم"، وهذا موجود في رسائل إيزابيل نقلاً عن القس الذي اختلى برامبو قبل وفاته.يذكر الشاعر العراقي، شوقي عبد الأمير، أن علاقة رامبو مع الإسلام بدأت قبل أن يذهب إلى اليمن، فوالده كان ضابطاً في الجيش الفرنسي في الجزائر، وهناك إشارات في رسائل رامبو تشير إلى أنه كانت توجد في بيتهم في فرنسا نسخة للقرآن كتبت في هوامشها شروحات وتوضيحات. يكتب رامبو في إحدى رسائله إلى أخته إيزابيل من اليمن: "ابعثي إليّ بنسخة قرآن الوالد ذات الشروحات"، والتي سماها حرفيا: (L"exemplaire de Coran annoté de mon père). يضيف عبد الأمير "هناك مسألة أخرى ينبغي استحضارها، وهي أن رامبو عندما كان في عدن، غيّر اسمه من رامبو إلى "عبد ربُّو"، فقد كان يشتغل كاتباً عمومياً، وهذه الوظيفة يطلق اليمنيون على من يشغلها اسم "الكرَّاني"، وهي كلمة هندية الأصل. لذلك أصبح رامبو في اليمن يسمّى "عبد ربوُّ" الكرّاني. هذه المعطيات تؤكد نوعية العلاقة التي أقامها رامبو مع محيطه الديني، عندما أقام في الحبشة ثم في اليمن. وهذا المحيط الديني أثَّر في رامبو بشكل أو بآخر". وهو من خلال الوقائع والإشارات نجد أنه انتقل من فرنسا إلى هذا المحيط العربي الإسلامي، فتفاعل معه وتأثر به بشكل من الأشكال...
أحياناً يكون الاهتمام بموضوع بعينه نوعاً من الهوس. ففي العام 1954، كتب المصري أنيس منصور، مقالة في العدد التاسع من مجلة "الرسالة الجديدة"، بعنوان "الذكرى المئوية للشاعر الفرنسي رامبو.. أو عبدربه.. تاجر اللبان الذي اعتنق الإسلام في الحبشة". وكان يحمل بطاقة جلدية كتب عليها "لا إله إلا الله.. عبدربه نقال لبان"، لقد كان يبيع اللبان، ويقول أنيس منصور "عندما عرضت هذه البطاقة الجلدية(...) على المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون والعالم الأثري غاستون فيت، أكد الرجلان أنّ شاعرنا قد تعلّم العربية وأنه أسلم، وأنه قد ترك كل شيء يربطه بالقارة الأوروبية، ترك لغته ودينه. أما في ما يخص زواج فحكي عن علاقة بامرأة حبشية اسمها مريم لفترة قصيرة ولا معلومات دقيقة عن الموضوع، سواء كان الموضوع يرتبط بالحبّ أم الزواج، أو عن أن رامبو كان مثلياً.نتذكر هنا عنوان رواية "رامبو الحبشي" للكاتب الإريتري حجي جابر، والذي يحيل "رامبو الحبشي" إلى الشاعر رامبو، وتحديداً خلال سنوات عمره الأخيرة التي قضاها في مدينة هرر الإثيوبية الافريقية النيلية. لكن سياق النص تحتله فتاة حبشية يُفترض أنها رافقته في تلك السنوات الاخيرة، وهامت به حباً لم يبادلها بمثله. بينما يطل ثالثهما عبر سرد الفتاة نفسها، لنعرف أنه لطالما حاول استمالتها عاطفياً من دون جدوى إلى أن يتعرف إلى رامبو ويصبح خادمه وعشيقه في الوقت ذاته. وبحسب ما جاء على غلاف الرواية، يسعى حجي جابر إلى إعادة الاعتبار لامرأة حبشية تدعى ألماز، رافقت رامبو في سنواته الأخيرة في الحبشة، من دون أن يأتي الشاعر الفرنسي على ذكرها في رسائله إلى أمه وشقيقته، ولتسقط بذلك من كتب التاريخ"... يمنح حجي الهررية اسمًا وصوتًا وتاريخًا وذاكرة، ويمنحنا بالتالي فرصة لرؤية رامبو من وجهة نظر الأحباش وكأنه بذلك يقلب الصورة فيزيح رامبو إلى الهامش ويجلب العشيقة الحبشية إلى متن الحكاية عبر سرد بعض ما جرى والكثير مما لم يحدث.