اعتاد المتلقّي العربيّ، ربط الأشرطة المصوّرة بإضحاك الناشئة وتسليتهم، ولم يعتَد "قراءتها" في كتاب فكري يتناول قضايا جديّة، وأقل من ذلك أن تتصدى مثل هذه الأشرطة للقضيّة الفلسطينيّة ومعاناة أهل غزة. وقد يزداد العجب إذا علمنا أن مؤلف هذه الأشرطة أميركيّ من أصول مالطية، خاض غمار هذا الفن الصعب وطوّعه في إصدارات تناولت إشكالاتٍ راهنة مثل "فلسطين (1993-1995) و"أيام تهديم، أيام ثورة" (2012) وغيرها. فما الجديد الذي يحمله شريطه بعنوان "الحرب في غزة"، الصادر مؤخراً في باريس؟في هذا الشريط، يعود Joe Sacco، بعد أكثر خمس وعشرين سنة من ظهور كتابه الأول "فلسطين"، إلى غزة، ليواصل استكشافه لوجوه الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من خلال أسلوبه الساخر في الصحافة المصورة. يسلط هذا العمل الضوء على معاناة المدنيين المحاصرين في حرب غزة ويذكر بالتأثير الإنساني لهذا الصراع، منتقدًا في الوقت نفسه عدم فعالية المجتمع الدولي في التعامل مع التقتيل المستمر.وعلى عكس أعماله السابقة، مثل "فلسطين" أو "حواشٍ في غزة"، التي اعتمدت على بحوث تاريخية مفصلة ومقابلات ميدانية، يأتي كتاب "الحرب على غزة" كاستجابة أكثر مباشرة وأشد عاطفية لحرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ويصور اليأس والدمار اللذيْن يعاني منهما سكان غزة، مع توجيه انتقادات لاذعة للصمت الدولي الذي طبَّع هذه المأساة وتَفَّهَها.
ولا ننسى أن هذا الشريط المصور يندرج في حركة فكرية أعمّ، ظهرت منذ عقدين تقريباً، يمثلها العديد من الرسامين الفلسطينيين في الداخل وفي الشتات. ومن أشهر هذه الأسماء ديما محمد، محمد سباعنة، ماهر الحاج وأحمد الرفاعي وغيرهم الذين أنجزوا أعمالاً تتفاوت في جودتها وعمقها، لكنها باتت تمثل تيارًا لا يشك أحد في ثباته شكلاً تعبيرياً ناضجاً ومضمونا فاعلاً.وبالنظر إلى موروثه ومنجزاته الفنية، لا يمكن لهذا الرسام أن يظل لا مبالياً بما يحصل اليوم في غزة من حرب إبادة راح ضحيتها إلى حد الآن ما يفوق 42 ألفًا، جلّهم من الأطفال والنساء والعجّز. فهو واعٍ بأن صوته يمكن أن يكون له صدى في الضمير الغربي، ولذلك أراد أن يكون له هذا الحضور الأخلاقي متوجهاً إلى أوروبا ليطلعها على الفظاعات التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي باسم الدفاع عن النفس ومحاربة التشدد.ومن المعروف أن ساكو لا يحب التفاعل الآني مع الأحداث ولا الردود الساخنة التلقائية على ما يطرأ في ساحة التاريخ من وقائع، ولذلك فضّل التريث من أجل الفهم المعمق لحدث 7 أكتوبر ثم التعبير عنه بعمل فني. وقد تريث بالفعل شهوراً قبل أن يصدر هذا الأثر الجديد الذي يتناول فيه الحرب والتعامل السياسي والإعلامي معها، منتقداً ازدواجية المواقف لدى وسائل الإعلام الغربية، إلى جانب التلاعب السياسي بأحداثها، لا سيما مع عجز العالم بأسره عن إيقاف هذه المجازر وذلك من خلال "هجائية" تمزج بين الكوني والحميم، بين ثقل الرهانات الجيوسياسية التي تحرك "لعبة الدول" والمعاناة الشخصية اليومية التي يتعرض لها شعب فلسطين الأعزل. وقد أصدر هذا الشريط ليُدين ما سمّاه "الدفاع عن النفس الإبادي"، وهي الشماعة التي ترفعها كل من إسرائيل والولايات المتحدة كتبرير سخيف للجرائم المقترفة منذ سنة.لكن السؤال الحارق يعود: هل تفيد مثل هذه الرسوم، ذات الجمهور المخصوص، في الدفاع عن القضية الفلسطينيّة وفي مواجهه فظاعة الاحتلال الاسرائيلي وما يقترفه يومياً من جرائم؟ وما عسى أن تحدثه خلجة عارضة أمام رسم أو فقاعة فيها حوارات وجيزة، مقارنةً بأنهار "الدم والركام" التي أتت على الأخضر واليابس؟الجواب صعبٌ. إذ لا يشكل مثل هذا العمل سوى قطرة في بحر الرواية الإسرائيلية الطاغية في الغرب، ولا يعدو أن يكون إلا صوتا خافتًا أو رسماً ضائعاً في أكمة من الأضاليل التي تروج لها وسائل الاعلام، بل هو صوت نشازٌ، ولا ندري كيف نجا صاحبه من تهمة "معاداة السامية" التي باتت تلصق بكل المنتقدين للمحكية الإسرائيلية أو المتعاطفين - مجرد التعاطف- مع القضية. قد تُفسر "التسامح" معه، دقةُ التصاوير ورشاقة الأسلوب الذي لجأ إليه سواء في اختيار العبارات أو زاوية النظر وطريقة الرسم، من دون التجريح في الرواية الأخرى، أو الإخلال "بالتوازن" الذي يشترطه الغربيون. فهو بذلك يفتح ثغرةً في الوعي الغربي الفرنسي وإن صغيرةً، ليشاهد من خلالها جمهور الشباب المولعين بالأشرطة المصورة، حقيقة أخرى وواقعًا مختلفاً لطالما عملت هذه الآلة على إخفائه.وبهذا العمل، رغم قصره (لا يتجاوز الثلاثين صفحة)، يعطي ساكو الكلمة إلى المضطهدين الذين لا صوت لهم في ظل تلاعب إعلامي غربي خطير، لا يفسح المجال إلا للجناة الذين يخرجهم في صورة الضحية ويخفي تماماً وبشكل منهجي مقصود معاناة الضحايا الحقيقيين الذين يتعرضون يومياً إلى التقتيل بمرأى ومسمع من الجميع.وعندما نطالع الانطباعات الأولى عن هذا العمل في الصحافة الفرنسية، نجد أن شهادات النقاد تركز على مفهوم "الصيحة". فاعتبرت صحيفة "لوموند" هذا الشريط "صيحة غضب حاسمة وتعبير عن قرف عميق"، ووصفه موقع "ميديا بارت" بـ"صيحة غضب وعجز". وفي الشهادتين، تتكرر مفردة "صيحة" لأن هذا الرسم ورد بمثابة صرخة تجاه الضمير الفرنسي السادر في مشاكله اليومية والذي يرفض أن يسمع صوتاً آخر سوى السردية الإسرائيلية. فعقله محتل وخطابه مشدوه إلى الرواية الظالمة. ولذلك سعى الرسام بصدقه، لكن بعجزه، إلى إيقاظه منها، مستغلاً طلاوة هذا الجنس الفني الذي يعتمد الصور والحوارات القصيرة وما يوجد في الفقاعات من كلمات حاسمة عسى أن يدفع القارئ إلى التفكير.وما يمكن الجزم به أن هذه الأعمال، ورغم طابعها الهامشي وأثرها المحدود، تفتح ثغرة في جدار الصمت المخزي الذي يختفي وراءه العقل السياسي الغربي الرسمي والذي رفع شعارات مثل "حق الدفاع عن النفس" و"منطق الحرب" وغيرها، جدار سميك يتحصن به الخطاب الغربي، لكن مثل هذه الرسوم قد تشكل تصدعاً فيه، قد ينتهي به إلى تفتيته من الداخل حين يكتشف هذا الوعي إلى أي حد كانت موازينه مختلة.كما قد تسجل هذه الرسوم لطور من أطوار الوحشية البشرية، فتكون للأجيال اللاحقة بمثابة شهادة تاريخية حية ومؤثرة، ذلك أن عداد القتلى اليوم في فلسطين ومؤخراً في لبنان بات يمدنا بمجرد إحصاءات عن الضحايا. وتكرار هذه المجازر وتتابعها منذ سنة، أفقد الوعي العالمي الحسَّ التراجيدي بكل وفاة، وبحقائق الأشخاص الذين يختفون وراء الأرقام، ولعل مزية هذه الأعمال أن تهز رتابة الأرقام وأن تذكر العالم بأن وراء كل عدد إسمًا وحياة سُرقت بوحشية وحلمًا كان قائماً فتفتت. وليس هذا التذكير بهيّن.