لعل قصة الأستاذ رائد زاهر، مدير مدرسة "حافظ إبراهيم" للتعليم الأساسي في دمشق، والذي صنع مقاعد للتلاميذ بيديه بمساعدة مالية من الأهالي والمعلمين، تعكس أكثر بكثير من الجهود الفردية التي يبذلها الأفراد في سوريا لتوفير أبسط مستلزمات الحياة الطبيعية، إذ تؤشر إلى مدى الانهيار الحاصل في بُنية النظام السوري، على المستوى الحكومي والخدمي، والذي لم يعد المسؤولون يتهربون من الاعتراف به كما كانت الحال قبل سنوات.
وانتشرت صور في مواقع التواصل الاجتماعي، لزاهر مع الطلاب الذين يجلسون على مقاعد جديدة، بشكل لا يتماثل مع الصورة التقليدية لمقاعد المدارس التي يعرفها أي سوري درس في البلاد طوال العقود الخمسة الماضية. وتم تقديم زاهر في الإعلام الرسمي الذي غطى قصته، كمثال على المواطن النموذجي الذي يتحلى بـ"المسوؤلية التربوية" و"المسؤولية الاجتماعية".وبحسب المعلومات المتداولة، عمل زاهر على بناء أو ترميم 70 مقعداً دراسياً، لتغطية النقص في عدد المقاعد الدراسية قياساً بكثافة الطلاب، موضحاً أن عدد الطلاب في المدرسة وصل هذا العام إلى 1600 طالباً وطالبة. بينما كان العام الماضي 1450 طالباً، مرجحاً أن يكون سبب تلك الزيادة هو رفع أجور المدارس الخاصة لدرجة كبيرة هذا العام.وفي المدرسة المكتظة بالطلاب، يتقاسم كل أربعة تلاميذ مقعداً واحداً مخصصاً في العادة لطالبَين اثنين. ولما طلب زاهر من "مديرية التربية" إصلاح المقاعد المكسورة نتيجة كثافة الطلاب والحاجة لمقاعد إضافية، لم تساهم المديرية التابعة لوزارة التربية، سوى بإصلاح 50 مقعداً، ليضطر المدير إلى طرح مبادرة أهلية تتضمن جمع تبرعات من أهالي الطلاب والمعلمين ومنه، وبالنقود التي جمعوها اشتروا ألواحاً خشبية خاصة وبدأوا بصنع المقاعد وإصلاحها. وكان زاهر يعمل بأدوات النجارة الخاصة به، بعد انتهاء الدوام الدراسي يومياً، لإصلاح وتركيب المقاعد، علماً أنه عمل في السابق لصالح وزارة التربية، كمتعهد تصليحات في المدارس، خصوصاً العام 2008 عندما قام بإعادة تأهيل مدرسة "الشريف الإدريسي" في دمشق، ومدرسة المقداد بن عمر الكندي"، وغيرها.ورغم أن الاحتفاء بهذا النموذج من الأفراد الذي يحاول إيجاد حلول للمشاكل اليومية، طبيعي، إلا أنه يتحول إلى مشكلة مع تقديمه من قبل السلطة الحاكمة على أنه النموذج الوحيد المطلوب من أجل تقدم البلاد وتعافيها من مشاكل متراكمة عززتها الثورة والحرب في البلاد منذ العام 2011. إذ باتت الدولة السورية تتخلى عن مسؤولياتها حتى في أبسط التفاصيل اليومية، لدرجة أن ذلك لم يعد اتهاماً تكرره وسائل الإعلام المعارضة بقدر ما هو سلوك تتبناه المؤسسات الرسمية بلا خجل مع إلقاء المسؤولية فيه على "الإرهاب" و"المعارضين" والعقوبات الغربية.وتصبح المبادرات الفردية بالنسبة للسلطة العاجزة اقتصادياً والفاقدة للشرعية السياسية والأخلاقية، مخرجاً لأزمة أمام المجتمع المحلي الناقد، ويصبح تبنيها وتكريم أصحابها، كما جرى مع زاهر نفسه الذي كرمته وزارة التربية، طريقة لتغليف السواد والسلبية اليومية في الحياة السورية، بطبقة من الطاقة الإيجابية، بدلاً من تقديم القصص الحقيقية السلبية، والتي تتعلق في مثال قصة زاهر، بالبنية التحتية المهترئة والحالة المزرية للمدارس الحكومية والعجز الرسمي أمام ذلك الواقع.وتكرر هذا النموذج منذ العام 2020 مع دعوات أطلقتها في ذلك الوقت وزارتا الزراعة والتربية لاستلهام "الجهاد الزراعي" الذي نادى به الأمين العام السابق لـ"حزب الله"، حسن نصرالله، في لبنان، مع انهيار قيمة الليرة اللبنانية العام 2019. ووجدت الدولة السورية في تلك المبادرات أسلوباً لتحميل مسؤولياتها للمواطنين بموزاة تشديد قبضتها على حرية التعبير وقمع الناقدين إلى حد اعتقال إعلاميين في التلفزيون الرسمي، لمجرد حديثهم عن ارتفاع الأسعار أو انقطاع الكهرباء.وبدلاً من مواجهة المشاكل المتفشية، عمد النظام إلى تعميم استراتيجية إعلامية تقوم على تقديم الأخبار الإيجابية، وانتشرت برامج مختلفة، في التلفزيون الرسمي وقنوات "يوتيوب" الخاصة بالصحف وفي صفحات الإعلاميين الموالين الشخصية في مواقع التواصل، لتقديم "الإعلام التكافلي" الذي يبحث عن الفقراء مثلاً بوصفهم حالات فردية لإعطائهم وجبات من الطعام، مثل برنامج الإعلامية دعاء جركس الذي تنشره صحيفة "الوطن" شبه الرسمية، أو برنامج مماثل لمراسل التلفزيون السوري شادي حلوة في "يوتيوب".ومع تركيز الضوء على الناحية الإيجابية، تستطيع السلطة التملص من مسؤوليتها وتقديم نموذجها الخاص للمواطن الصالح، الذي لا يشكو ولا يتذمر ولا يرفع صوته بل يقبل بالواقع أو يحاول تغييره بشكل شخصي ضمن "الأطر الوطنية" طبعاً، ما يحدد بشكل أوسع نموذجاً لما يجب أن يكون عليه العمل المدني ونشاط الجمعيات غير الحكومية أيضاً، بشكل يجعل منها كلها نشاطات رديفة لمؤسسات الدولة تحت مسمى "العمل الأهلي".وهذا ليس جديداً بل يحضر في سوريا منذ عقود في بلدات القلمون بريف دمشق، تحديداً في ديرعطية التي لطالما وصفت بأنها مدينة نموذجية، بسبب تبني "العمل الأهلي" من قبل سكانها لتحقيق مستوى معيشة أفضل نسبياً من دون دعم حكومي حقيقي، على عكس معظم البلدات والمدن السورية الأخرى. فمنذ عشرينيات القرن الماضي، ومع تزايد أعداد المغتربين الذين غادروا هرباً من التهميش وغياب الحلول الحكومية، تولى السكان بأنفسهم تمويل مشروعاتهم التنموية، سواء في بناء المدارس والمكتبات، أو في تطوير البنية التحتية مثل الطرق والإضاءة، وإقامة الحدائق العامة والمشاريع الزراعية لتأمين المياه الشحيحة.ورغم أن هذه المشاريع كلها اعتمدت بشكل رئيسي على تبرعات أبناء البلدة، إلا أن النظام السوري احتكر تقديمها لاحقاً باسمه، عبر واجهات تتبع له من رجال الأعمال النافذين، كعائلة دعبول التي تتمتع بنفوذ واسع في ديرعطية. ويتكرر ذلك اليوم بطريقة مختلفة قليلاً، في نموذج الاحتفاء بزاهر، وغيره من الأفراد، عبر تكريمهم من قبل السلطة، وتقديمهم على أنهم جزء من المنظومة الرسمية، كموظفين يمثلون الدولة حتى خارج أوقات العمل الرسمي، فيما تصبح القصة المهمة بالنسبة للإعلام هي التفات الدولة لأولئك الأفراد وتكريمهم، بدلاً من الظروف الكارثية المحيطة بهم.ولا تخفي تلك الاستراتيجية الدعائية، الواقع السلبي، لأن حجم المبادرات، مهما كانت نبيلة، لا يرقى إلى حجم المشاكل التي تحتاج إلى جهود حكومية أوسع وإلى حل مشاكل الفساد المتراكمة. علماً أن إحصائيات وزارة التربية في أيلول/سبتمبر الماضي، تفيد بأن عدد المدارس المتضررة في البلاد يقدّر بـ10 آلاف مدرسة، منها 5 آلاف مدمرة بشكل كامل، ليتضاءل عدد المدارس الصالحة للتعليم إلى 14 ألف و505 مدارس فقط. فيما قدرت الأمم المتحدة العام 2023، أن 18% من الأطفال السوريين غير ملتحقين بالمدارس، ما يصل إلى أكثر من مليوني طفل سوري تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاماً.وبحسب الأمم المتحدة، "لم تعد لدى المدارس القدرة اللازمة على استيعاب الطلاب، كما تفتقر هذه المدارس إلى الحد الأدنى من شروط العملية التعليمية، بسبب اكتظاظ الطلاب داخل الفصول، ونقص الأثاث المدرسي واللوازم المدرسية، وندرة المواد اللازمة للتدفئة والإنارة الجيدة، بالإضافة إلى تلف الحمّامات ومرافق الصرف الصحي".