نشرت جمعيّة المصارف مؤخّرًا داتا مقاصّة الشيكات، لغاية شهر أيلول الماضي، والتي تعطي -ولأوّل مرّة- مؤشّرًا يعكس حركة السيولة داخل النظام المالي اللبناني، بعد توسّع الحرب في منتصف الشهر الماضي. الواضح في تلك الأرقام، هو أنّ حركة الشيكات بالدولارات والليرات "الفريش" لم تتأثّر حتّى الآن بتوسّع الحرب، بل ظلّت مستقرّة عند نفس مستوى الشهر السابق، ولو أنّ هذه الحركة لم تشهد زيادة ملحوظة، وفق نفس النمط الذي شهدته الأشهر السابقة. أمّا حركة الشيكات "اللولار"، فظلّت تشهد نفس المسار الانحداري الذي شهدته طوال الأشهر السابقة، بفعل القيود المصرفيّة المفروضة على الدولارات المحليّة والودائع القديمة.حركة "الفريش" بين المصارفكما هو معلوم، كان مصرف لبنان قد أدخل –منذ حزيران 2023- التعميم رقم 165 حيّز التنفيذ، وهو التعميم الذي استحدث مقاصّة خاصّة بين المصارف اللبنانيّة للدولارات والليرات "الفريش"، أي للسيولة التي جرى استقبالها داخل النظام المالي بعد حصول الأزمة الماليّة عام 2019، والتي لا تخضع حاليًا لأي قيود على السحوبات والتحويلات. ومنذ ذلك الوقت، فرض المصرف المركزي على المصارف اللبنانيّة -وبشكل متكرّر- تكوين احتياطات مقابل هذه الأموال، في حساباتها في الخارج، لضمان قدرتها على تسديد هذه الودائع الجديدة، وفصلها عن الودائع القديمة المأزومة. وكان هذا التعميم جزءًا من التدابير التي اتخذها المصرف المركزي، لامتصاص السيولة النقديّة الموجودة في السوق، والحد من تفشّي الاقتصاد النقدي الورقي.
لم يتمتّع النظام الجديد العابر للمصارف بشعبيّة واسعة في مرحلة إطلاقه، خلال العام الماضي. غير أنّ أرقام المقاصّة الجديدة أخذت بالتنامي منذ بداية العام الراهن، وبات بالإمكان القول أن المصرف المركزي نجح في رهانه على إطلاق هذه المنصّة الجديدة، وإن لم يتمكّن بعد من امتصاص غالبيّة تداولات السوق الماليّة، داخل النظام المالي الشرعي. ما زال اقتصاد "النقدي الورقي" هو الرائج، لكنّ أداة المقاصّة "الفريش" أخذت تتوسّع شيئًا فشيئًا على حسابه، وهذا ما تطلّع إليه مصرف لبنان منذ البداية. ولعلّ تذكير مصرف لبنان المتكرّر بضرورة تكوين الاحتياطات، مقابل هذه السيولة الجديدة، ساهم في طمأنة المتداولين بها بشكل متدرّج.
حتّى أواخر شهر أيلول، كان حجم تداولات المقاصّة "الفريش" بالعملات الأجنبيّة قد -تجاوزخلال الأشهر التسعة الأولى- حدود الـ 196.3 مليون دولار، وبعدد شيكات ناهز الـ 14,709 شيكات. أما بالليرة اللبنانيّة، فتجاوز حجم هذه التداولات الـ 12.62 ترليون ليرة لبنانيّة، أي ما يوازي الـ 141 مليون دولار بسعر الصرف الرسمي، وبعدد شيكات يناهز الـ 6,764 شيكًا. وبطبيعة الحال، يصعب مقارنة هذا الحجم من التداولات بأي أرقام للفترة المماثلة من العام الماضي، إذ لم تكن هذه المقاصّة قد سجّلت بعد أي انطلاقة فعليّة. لكنّ الأكيد هو أنّ ألأرقام الحالية أخذت تتنامى مع مرور كل شهر، منذ بداية السنة.
خلال شهر أيلول، بلغ حجم التداولات في هذه المقاصّة 3,476 شيكًا، وهو ما يوازي تقريبًا حجم تداولات الشهر السابق، الذي بلغ 3,486 شيكًا. وعلى هذا النحو، لم تشهد المقاصّة أي تراجع في حجم عمليّاتها، جرّاء توسّع الأعمال الحربيّة خلال الشهر الماضي، وإن شهدت جمودًا يُخالف نمط الارتفاعات المتتالية الذي شهدته الأشهر السابقة. مع الإشارة إلى أنّ المقاصّة حافظت على هذه الأرقام، رغم إقفال جزء كبير من الفروع المصرفيّة في المناطق المتضرّرة من الأعمال العدائيّة، وتوقّف النشاط الاقتصادي في تلك المناطق. وهذا ما يفرض فهم الأرقام الحاليّة كتقدّم في حجم أعمال المقاصّة، من ناحية نشاطها في المناطق الآمنة التي لم تشهد –نسبيًا- نفس مستوى الأعمال العدائيّة العسكريّة.
في جميع الحالات، ثمّة الكثير من التحليلات التي تترقّب أن يُعزّز إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة دور هذه المقاصّة بالتحديد خلال المرحلة المقبلة. إذ أنّ جزءاً من الشركات اللبنانيّة مازال يتعامل عبر المصارف المراسلة مباشرة، من خلال حسابات في الخارج، حتّى عند إجراء التداولات مع أطراف لبنانيّة. وهذا يعود لعدم ثقة هذه الشركات بالنظام المصرفي المحلّي. غير أنّ التعقيدات التي ستلي إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة، وخصوصًا بالنسبة للتحويلات التي تمر عبر المصارف المراسلة، ستزيد من جدوى العمل عبر النظام المالي المحلّي، لتقليل كلفة التحويلات من الخارج وتجاوز التعقيدات المحيطة بها.مقاصّة الشيكات بالدولارات القديمةعلى المقلب الآخر، شهدت مقاصة "اللولار" أو الدولارات المحليّة انخفاضًا في تداولاتها، إلى حدود الـ 1.08 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، مقارنة بنحو 2.85 مليار دولار خلال العام الماضي. كما انخفض إجمالي عدد الشيكات المتداولة إلى 151.4 ألف شيك هذه السنة، لغاية شهر أيلول، مقارنة بـ 353.18 ألف شيك خلال نفس الفترة من العام الماضي. وكما هو معلوم، يعود هذا التراجع إلى القيود التي تفرضها المصارف حاليًا على تداول الشيكات المربوطة بالحسابات القديمة، بالإضافة إلى القيود المفروضة على فتح الحسابات بـ "اللولار". وبهذا الشكل، تتجه المصارف تدريجيًا إلى دفن مقاصة "اللولار" كأداة تداول، مقابل تعزيز دور المقاصّة الجديدة.
الإشكاليّة الأهم اليوم تبقى ازدواجيّة تداولات النظام المالي. إذ وفق النمط الراهن، يتم حاليًا تكريس فكرة وجود نظام دفع موازي للدولارات "الفريش"، في مقابل نظام الدفع القديم للدولارات المحليّة، وهو ما يطبّع شيئًا فشيئًا الأزمة المصرفية كواقع موجود على المدى الطويل، بدل التعامل مع فجوات النظام المالي ومعالجتها. ومن ناحية أخرى، ورغم نجاح المقاصة الجديدة في استقطاب جزء من تداولات السوق، من المستبعد أن تتمكّن هذه المقاصّة من تجاوز إشكاليّة اقتصاد النقد الورقي في القريب العاجل، طالما أن المصارف غير قادرة على استقطاب ودائع طويلة الأجل.