هناك نحو ستة ملايين لبناني، خمسة ملايين ونصف المليون منهم (على أقل تقدير) لم ينتخبوا أياً من نواب حزب الله، وبالطبع لا شأن لهم بمن اختار الشيخ نعيم قاسم أميناً عاماً للحزب. وهو بطبيعة الحال على رأس قيادة حزبه وحسب، وليس له أي سلطة رسمية على اللبنانيين، ولا يملك أي تفويض دستوري أو تمثيلي، لا من السلطة ولا من المواطنين-الناخبين.
وبديهي القول إن نواب الحزب لا يشكلون كتلة غالبة. ولذا، لا يملكون أي صلاحية ولا السلطة الكافية لاتخاذ قرارات تخص مصير ملايين اللبنانيين، بل ومصير أجيال مقبلة.وإذا تذكرنا العبارة الشهيرة لرئيس مجلس النواب، نبيه برّي: "لا للعودة إلى ما قبل 1982"، وهو الذي وضع هدفاً استراتيجياً وحققه عندما تولى منصبه، المتمثل بإسقاط "اتفاق القاهرة".. فكان المقصود تماماً من قِبل الرئيس برّي إنقاذ لبنان والجنوب تحديداً والشيعة خصوصاً من دوامة الحروب غير المتكافئة التي فُرضت على اللبنانيين مراراً منذ ذاك الاتفاق المشؤوم. وقد عبّر برّي بذلك وبصفته التمثيلية كما عبّر مجلس النواب بالإجماع (ممثلاً إرادة اللبنانيين دستورياً) عن الرفض التام لإبقاء الجنوب مستباحاً، وبوابة لنيران جحيمية تحرق لبنان.
ثم أن الأمين العام السابق، حسن نصرالله، وفي خضم حرب عام 2006، قال قولته الشهيرة: "لو كنت أعلم"، دالاً على فداحة الرهان الخاطئ على محدودية رد الفعل الإسرائيلي إزاء عملية خطف وقتل بضعة جنود. وهو ضمناً، اعتراف بخطأ في التقدير والقرار، لم يفضِ إطلاقاً لا لمراجعة ولا لمساءلة. إذ لم يكن نصرالله خاضعاً في الأصل للمقتضيات الدستورية، ولا حمل تفويضاً من الشعب اللبناني.ويبدو أن الشيخ نعيم قاسم، ومن بقي من قيادة حزبه، مدركون لفداحة التقدير الخاطئ مجدداً في مدى استعداد إسرائيل للانتقال مما كان يسمى "قواعد الاشتباك" إلى الحرب المفتوحة. وقد دفع الحزب قبل أي أحد آخر، ثمناً باهظاً جداً لسوء التقدير هذا. وعليه، لم نعد فقط إلى "ما قبل 1982" ولا إلى النتائج الوخيمة والكارثية لعقيدة "اتفاق القاهرة"، بل ذهبنا إلى تكرار نكبة غزة بكل أبعادها "القيامية".
هذا وأتت الحرب في لحظة تتويجية لسلسلة كوارث سياسية ومالية واجتماعية امتدت على مدى عقد من الزمن، وعلى نحو يستحيل فيه لأي بلد أن يذهب إلى حرب إلا كقرار انتحاري أو كرغبة بالتدمير الذاتي.أما وقد وقعت الواقعة، ولا إمكان للمراجعة أو المساءلة أو المحاسبة في ظل العدوان وتحت القصف والأهوال والقتل اليومي، فقد كنا نطمع من الشيخ نعيم قاسم أن يكون أكثر انتباهاً وتحسساً لحال اللبنانيين ومزاجهم ورأيهم. لكن كلامه عن "التضحيات" و"النصر" وحديثه عن "الصمود الأسطوري" وخصوصاً قوله "الحمدالله الذي ألهمنا الدخول في حرب مساندة"، لا يدل على أي تفطّن أو اعتبار لا لمن مات ولا لمن بقي حياً. أما اعترافه بأن الضربات التي تلقاها حزبه بأنها لو "أصابت جيشاً لهزم أو مع دولة لتفككت"، فهذا أيضاً يدلنا مرة أخرى أن الحزب لا يعير اعتباراً لا لخسائر ولا لمصائب تنزل بدولة ومجتمع، فلا حساب للموت ولا للدمار ولا للحياة نفسها.
وهو إذ يطالب اللبنانيين بالانغماس معه في حربه التي تبدو أبدية، يستطيع التبرؤ من كل تبعاتها ومسؤولياتها وكلفتها، بعبارة سحرية: "أصلاً لم نكن نريد الحرب". وخطابه هذا كأمين عام لحزب الله، وبحكم الأمر الواقع، هو السياسة اللبنانية الوحيدة المتاحة، وهو الذي يقرر وجهة البلد وقدره، من غير مناقشة أو اختلاف. فلا مجلس نواب لديه رأي راجح، ولا رئيس جمهورية مفوضاً، ولا مجلس وزراء مقرراً.. وبالطبع لا أحزاب ولا جماعات ولا رأي عام يتاح له ولو المشاركة في شيء، فهؤلاء بدرجة أو بأخرى وبعرف قاسم وحزبه "عملاء الداخل"، الذين سيأتي دورهم فور الانتصار على إسرائيل، وربما قبل ذلك، وفق مقتضيات المعركة.